الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

الإشارات والعبرات.. في رواية "ليلة يلدْا": لـ "غادة العبسي"

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أن تكتب عملًا روائيًا عن بيئتك بما تحويه من ثقافة، فهذا عمل ميسور له وسائل المعرفة الكافية لكيما تمتلك قلما يعطيك حسا بما سوف تسرد له، أما وأن تذهب إلى ثقافة مغايرة من حيث تفاصيل اللغة، والأخيلة، والأمكنة، فهذا عمل محفوف بالمخاطر. وقد فضلت الروائية غادة العبسي هذا العمل المُهلك، وذهبت لتسلق صخور كل جبال فارس القديمة، وسلك في نفس الدرب معها الشاعر الصوفي -حافظ الشيرازي- الذي عاش في فترة عصيبة جدا كانت جلها حروب وإضطرابات، بعدما قام التتر بإستباحة أراض المسلمين، وبعدما قام المسلمين أنفسهم بإستباحة دماء بعضهم البعض. فالرواية الصادرة عن دار التنوير عام 2018، تروي لسيرة حياة هذا الشاعر، الذي ذاق محبة الله، وكره الصراعات والحروب، وما تشتمل عليه من سياسات توسعية لا مبرر لها سوى تعظيم الذات.
"السرد التوظيفي"
منذ البداية تتعامل الروائية مع سوسيولوجيا المكان مباشرة؛ لتعطينا تفسيرا فوريًا لعتبة النص- العنوان ليلة يلدا-، فتصف الجمع المصطف في تلك الليلة الباردة في آخر ليلة من ليالي الشتاء، حيث يصطف الجميع للإحتفال في مدينة ركن آباد، على مائدة تحوي كلا من الضحكات.. البطيخ.. الرمان.. التين، وفاكهة الخرما. وفي محاولة لتناسي الحرب المدمرة وتفادي صورة الدماء وتيمورلنك. ولا يقتصر الأمر هنا على المسليمن فقط بل واليهود والمسيحيين، ولكن الرابط الثقافي هنا مُوحى به من الديانة الفارسية القديمة- الزرداشتية- حيث النار كعبة الجميع. كما يقود الزمن هنا العمل الروائي فهذه الليلة- ليلة الولادة- مُقدسة من الجميع، وإليها يتطلعون لمخلصهم. ويتولى السرد داخل منظومة العمل- حافظ الشيرازي نفسه
" وشب جدي في تلك القرية الهادئة التى تبعد نسبيا عن صراعات السلطة، فكانت تسقط دوما من حسابات الحكام". على أن السرد هنا كثيرا ما كان يحمل ذكريات الماضي، وجرائم هولاكو المرعبة.
ولا يتوقف السرد لحظة داخل العمل، وكأنه نهر من أنهار فارس الكثيرة، يجري ويتدفق ليروي ظمأ الأنفس، ورغم ما في الرواية من مفردات لغوية غريبة عن الأُذن العربية، إلا هذا لم يؤثر في العملية السردية على الرغم من كثرة الهوامش التوضيحية التي لجأت إليها المؤلفة، والتي اعتمدت التوظيفية وهي تسرد للعمل، من خلال بصيرة نافذة ومهارة صانع حاذق لتفاصيل صناعته، فهي تارة تسرد لجمع محتشد في ليلة باردة، ومن ثم كان لا بد من شمولية السرد لأجواء المكان والبيئة -وهو ماكان-، وتارة أخرى تسرد لحوارت لفيف من التجار فتتلمس معرفة بأنواع البسط الفارسي، وتارة تسرد لهذيان صوفي، ومقابلات أولياء الله، فتستحضر معاني وإشارات المتصوفة وكأنها واحدة منهم، مع مزج كل هذا بآيات من القرآن، وبعض الأساطير الدينية التي تناقلها العامة ولم تحوها دفة مرجع علمي. كما أن المؤلفة فيما يخص الأحداث التاريخية كانت في حذر شديد، إذ لم تلجأ للتأويل الفني داخل بنية العمل، كما يفعل أقرانها، وذلك حتى لا تقع في فخ المأمور به والمنهي عنه.
"الشخوص"
1- حافظ الشيرازي: هو الشخصية الرئيسة في العمل، وهو الراو العليم الذي يشكل عملية السرد منذ البداية، وقد تفننت الروائية في رسم هذه الشخصية فهو محب.. هائم على وجهه.. بسيط بلا تكلف في علاقاته مع الغير، وهو دائما ما يبحث عن الآخر الذي يمنحه القوة، ويستند عليه، ولهذا بلغت الرواية مبلغها من القوة والمتانة عندما بدأت معرفة حافظ الشيرازي بالملك أبي إسحق، وإن كانت المقابلة قد تمت متأخرا، كما يعتري هذه الشخصية الهوى وحب النساء، ومحاولة نسيان الحبيب بآخر يُسامره ويُلاعبه.
2- شمس الدين: يطل شمس الدين في صفحات الرواية من البداية، فحاله كحال الجمع الملتف حول ليلة المباركة، يبحث عن خلاصه، إلا أن يتسيد البناء الدرامي عندما يتم محو وتجريد الشخوص الأخرى من أجل أن يظهر هو متسيدا الموقف
" كان منخرطا في إنسلاخ أبدي عن عباءة الدنيا، ذائبا في حلم الغياب الأخير". وهو يفكر في خضم هذا في سبيل للخروج من شيراز
3- بهاء الدين: الأبن الذي ينجح في الخروج من عنق الزجاجة، لكن الخوف حاضرا معه في كل وقت، وهو مفتون دائما بالجمال والصنعة " أحذ يمرر يديه فوق الأنسجة الناعمة، يحدق إلى ألوانها البديعة". وقد ساعد هذا في تكوين درامي متجانس من صنع المؤلفة، التي صنعت من شخصية الأب بداية قوية، وتمهيد مناسب لشخصية الابن- حافظ الشيرازي- فيما بعد.
4- وجد: والدة حافظ الشيرازي- وإليها هفا قلب الأب، وقد عانت بعد وفاة الزوج، وتبدلت تحت ضغوط الحياة والديون المتراكمة، فتزوجت بعد أن تخلت عن الأبن لآخر يقوم على تربيته.
5- فيروز: صديق حافظ والذي بفقده انقلب حاله راسا على عقب
6- قوام الدين: مُعلم حافظ وشيخه، وهو كفيروز راعي حافظ وصديقه، يتمثل وجوده في العمل كنقطة إتزان
7- أبو إسحق- الحاكم-: وهو كشخص مؤثر في البناء الدرامي، لكونه خلق تناقض مع شخصية حافظ، إلا أن تأخر ظهوره إلى القسم الأخير من العمل يعد عيبا، لأنه لو ظهر مبكرا لساهم في عملية بناء درامي أكثر فأهلية ولمنح الأحداث الكثير من الحيوية.
"ومع ذلك أحببتُ أبا إسحق، ربما أحببته لأنه يختلف عني تمامًا، كان جريئًا ومقدامًا، بل ومتهوّرًا، ويتخذ القرارات من دون تفكير ولا حسبان، يتبع عاطفته، ولا يستخدم عقله إلّا عند دنوّ الخطر..."
"الحيرة الصوفية – الإشارات والعبرات"
قد لا يُدرك الكثيرون بأن الصوفية حيرة وليست يقينا، لذا فإن المتصوف في بحث دؤوب عن الله، ومن جملة الصراع النفسي والحيرة يتولد الوهج والوجد، وتبدأ أولى الإشارات الصوفية في الرواية من ملتقى ليلة يلدا حيث يجتمع الجميع حول مائدة الحب، إلا أن أصوات حروب الماضي تخيم بجهومية، على الجميع، رغم محاولة النسيان بالغناء والنبيذ
ولو نظرت إلى إشارات وعبارات الجد والأب لحافظ فسوف تجدها تخرج من معين واحد " أريد الذهاب إلى الله... هو سيهدين..."
" روت الصلاة قلبه الظمآن للحقيقة وأراحت الروح الضائعة بين الصواب والخطأ".
"استفاق على سنوات عمره، التي مضت في الأسفار والبحث عن الرزق، كان في حالة بحث دائمة... ولكنه لم يكن أبدًا يبحث عن زوجة...". والكاتبة هنا تضعنا باستمرار أمام إمتداد جذور الصوفية، وحيرتها الضاربة بعمق في جذور هذه العائلة الشيرازية.
"لقد دلّني الهدهد إلى الطريق... الطريق بعيدة مخيفة يا حافظ، ولا بدّ
للسالك من دليل. لا يسير الأعمى بغير قائد ومن قطعها بغير دليل وقع
في الشّرَك..."
"في الأصل كانت الحيرة، وكان ذلك الشّتات...".
وكثيرا ما يكرر هذا هذه العبارة، في كل مراحل حياته:
"يارب لماذا سلّطت على حافظ أحبّاءَه؟!"
"هيّا قم يا حافظ، تعالَ معنا...
كان حافظ لا يستطيع الكلام... فقال له الرجل:
-مَن قال إنك عاجزٌ يا حافظ؟
أنت الآن في تمام المقدرة!
يكفينا نظرةٌ أو إشارة!
-أنتم إذًا أهل النظرة وأهل الإشارة!"
"-اللهم علامةً قبل انتهاء الأجل... اللهم إشارةً قبل انتهاء الأجل..."
وعلى نفس نهج الولاية والنبوة تصنع الروائية غادة العبسي من الأربعين يوما للتخلية، رداءا لحافظ الذي ينتقل من مرحلة الموت إلى مرحلة الحياة بعدما يتفرغ لوجده على "جبل بابا كوهي"
"لم يلحظ أحد منهم وجودي، كانوا في واديهم يهيمون، أما
أنا فكنتُ شاردًا في ليالي الجبل الأربعين والطيف الغامض، فأخذتُ
أنشد وكأني أحدّث نفسي"
ويمتزج الوجد أحيانا بفحيح الرغبة الذكورية في إشارة، لقوة الحب في صنع السكر والذة "كنتُ أسأل نفسي ما الذي سوف يحدث بعد هذا الفوران العنيف؟ كان لقاءً مستحيلً بين السعادة والحزن، واللذة والألم، والضحك
والبكاء... وددتُ لو بقيتُ معلّقًا بين السماء والأرض هكذا! كيف
يمكنني أن أظلّ في النقطة التي تجمع القرب بالبعد؟ ألا تشبه تلك
اللحظة ما حدث في بابا كوهي؟"
"اللغة "
تبدأ الرواية بجملة فعلية تمنح العمل الانطلاقة القوية وتعطي القاريء توهج عقلي وإمكانية للدلوف إلى الرواية دون إبطاء" أوقدت سُرُج المدينة كلها". نستطيع أن نضع يدا على المجهود المبذول من المؤلفة من خلال كم المفردات اللغوية الفارسية التي المنثورة في طول الرواية، قامت بترجمة الكثير عن ثقافة الفرس في عصر حافظ الشيرازي، وتختصر غادة العبسي باللغة مسافات كبيرة جدا" هكذا حملت شيزار بكارة أرض شمس آباد وسعة عيش آصفهان"
"أنتِ وَرْدي ووِرْدي يا وجد!" وتنساب اللغة في شاعرية مُثلى مع الرومانسية الحالمة التي تجذبك في العمل الأدبي
"كان نِتاج ليلة حبهما الأولى ولدًا سمّاه أبي «عز الدين »
ومن هذا الحمل جئتُ إلى الدنيا، سمّاني أبي «شمس الدين محمد،»
ربما كان يحلم بنورٍ يُشرق على هذا اليأس المحيط من كل جانب"
"ولكني كبرتُ، على مدى أسبوعٍ قضيناه بمفردنا أنا ووجْد"، وعندما تريد أن تمنحك الكاتبة وصفا لحافظ الشيرازي، وملامحه الخارجية، وإلى أي عمر زمني وصل تقول: "قلتُ بصوتي المتأرجح بين الطفولة والرجولة".
الرواية في المُجمل، تتوسع داخل مساحات النفس البشرية، وتبحث عن سر شقائها، وأسباب سعادتها، وتلمح بإشارات إلى أهمية قبول الآخر، ورفض فكرة الهيمنة والسيطرة الجارية في المنطقة، وذلك بإحياء تراث المحبة ذلك النبع الذي يزيد ولا ينقص مهما أُخذ منه.