الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الأصولية والتجديد عند الصعيدي (3)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أما عن مدراس التجديد المنشودة فيحدثنا عبد المتعال الصعيدي أنه ينبغي ألا يقتصر جهدها على التغني بفضائل الإسلام وعظمة حضارته وورع رجاله وعدلهم، بل يجب تخطى ذلك كله إلى دراسة متأنية لواقع المسلمين للكشف عن علة جمودهم ومعوقات نهوضهم، ووضع برنامج إصلاحي للتغلب على هذه المعوقات متخذًا من الأصول الشرعية سبيلًا للتغلب عليها، موضحًا أن الثورة والقوة التي يجب أن تتحلي بها مدرسة الإصلاح لا تعني التغيير المفاجئ أو الوثوب على السلطة لفرض الرأي، بل هي روح النضال التي لا تهادن الرجعية ولا تمالئ أصحاب السلطة، الأمر الذي يشير إلى نقضه لمشروع الإخوان المسلمين. أما القوة المرجوه فتتمثل في كثرة الأنصار الذين يعملون على تطبيق خطة الإصلاح، وذلك لن يتحقق إلا بالخطاب المستنير الذي يرشد الجماهير ويوعيهم ويجيّشهم لخدمة غاياته، ويعمل على إقناع الرأي العام القائد بحسن نواياه والمنفعة العامة التي سوف تعود على المجتمع باسره من تطبيق مساعيه. 
ونجده على الرغم من تسليمه بأنه لا كهانة ولا عرافة في الإسلام، إلا أنه يؤكد على ضرورة وجود صفوة من علماء المسلمين يقومون على عقائده وشريعته ليجددوها ويبصروا بها الناس، مستشهدًا بقوله تعالى "وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون" (التوبة:122) وقد كان الصعيدي من أوائل دعاة إنشاء مجمع البحوث الإسلامية والمجلس الأعلى لحكماء الإسلام واتحاد علماء المسلمين أيضًا. ويشترط -الصعيدي- ألا تنحصر هذه السلطة في طائفة أو جماعة بعينها، وألا يكون لهم سلطان أو سطوة إلا النصيحة والإرشاد. 
وهو يعيب في ذلك على "خالد محمد خالد" ( 1920م – 1996 ) تلميحاته التي وصف بها بعض الجامدين والمتعصبين في الإسلام بأنهم كالكهنة.
ويكره في الوقت نفسه من الشيخ "محمد الغزالي (1917م-1996م)" إدانته "لخالد محمد خالد" والتشكيك في نواياه تجاه الإسلام، مؤكدًا على ضرورة تحلي المجددين بالاعتدال في نقداتهم ومساجلاتهم والعزوف عن آفة التعصب في التصريح بآرائهم وذلك لإتاحة الفرصة للحوار بينهم وبين خصومهم، - وهو يتفق في ذلك تمام الاتفاق مع الشيخ محمد فريد وجدي ( 1878م – 1954م ) الذي سوف نتناول مشروعه لاحقًا باعتباره احد المجددين في معية المحافظين - مبينًا أن التجديد مثل قارب النجاة، دفته الإصلاح ومجدافيه التسامح والتعقل، ويقول "إن للإسلام رجال دين علماء لا كهنوت، وأنه يجب أن يكون لهم حق إبداء الرأي في كل ما يتعلق بالدين، وأن الذي يجب أن يُصلح ويُقَوم فيهم هو جمودهم لأنه هو الموجود الآن فيهم لا الكهانة". 
ويمكننا أن نلاحظ من العرض السابق لحديث "الشيخ الصعيدي" عن معنى التجديد وسمات المجدد، وحكمه على المجددين العديد من الأمور منها، ما هو خاص بمنهجيته في معالجة هذه القضية وبعضها يعكس تأثره ببعض معاصيره، والبعض الأخر يكشف لنا عن علة موقفه من بعض قضايا التجديد الأخرى.
فأولها: يبيّن أن "الصعيدي" كان أقرب إلى الاتجاه العقلي الانتقائي أو إن شئت قل (الاتجاه المحافظ المستنير) منه إلى الاتجاه السلفي المعاصر، وذلك في تحديده معنى التجديد، وصفات المجدد، وتجويزه ظهور المجددين في أمة الدعوة شأن أمة الاستجابة، ذلك فضلًا عن حرصه على مقارنة حال المسلمين ومجدديهم وحال غيرهم من الأمم المعاصرة لهم وذلك خلال تقييّمه لأعمال المجددين في كل جيل.
فذهب إلى أن حال المسلمين في القرن الثاني عشر الهجري كان يسير من السيئ إلى الأسوأ وذلك على أثر استدانة "آل عثمان" وإهمالهم شئون الخلافة، وانحطاط نظم التعليم في الولايات وترّدي القيّم والمبادئ الأخلاقية والروحية، وتفكك الروابط الاجتماعية وظهور الحركات الانفصالية والمليّة، التي ضاقت بعنصرية الاتراك واعياها تعصبهم واستبداد حكامها الأمر الذي انعكس على طبيعة التجديد والإصلاح في هذا القرن، فلم يظهر سوى دعاة إصلاح ديني أقرب إلى السلفية منهم إلى التحديث.
في حين كان المجتمع الغربي على النقيض من ذلك الجمود والتشرذم تمامًا، حيث التقدم على الصعيدين العلمي والفلسفي والثراء الاقتصادي والثقافي، وظهور النهضوّيين والتنويرييّن الذين أعادوا صياغة العقلية الأوروبية، أضف إلى ذلك دعوة فلاسفة هذه الحقبة إلى الثورة على الاستبداد وتحقيق العدالة والمساواة والسلام بين الشعوب، وحرية الفكر والاعتقاد.
وخلص من هذه المقابلة إلى أن أمة الإسلام كانت أحوج إلى تجديد "إسحاق نيوتن 1643-1727م"، و"مونتسكيو 1689-1755م"، و"فولتير 1694-1778م"، و"روسو 1712-1778م"، و"ديدرو 1713-1784م" بعد تهذيب آرائهم ونقدها وغربلتها وتطهيرها مما يتعارض مع الثوابت الشرعية. وبيّن أن ذلك أفضل من مسايرة جمود الفقهاء السلفيين الذين مكنوا الأوروبيين - بجمودهم وجهلهم بأصول الحضارة الحديثة - من الانقضاض على البلاد الإسلامية والاستيلاء على ثرواتها، وظهور في الوقت نفسه الجماعات الجامحة والفرق الجانحة والفلول الماجنة، ذلك فضلا عن تساؤل جمهور المثقفين عن علة تأخر المسلمين وتقدم غيرهم وكيفية اللحاق بالأمم الراقية وإحياء مجد الحضارة الإسلامية التليد. ويقول: " كان المسلمون في هذا القرن أيضًا ينتظرون مجدده من بين الفقهاء الذين لا يعرفون شيئاَ سوى الفقه وما إليه من العلوم، فعاشوا بين تقليب أوراقه، يجهلون دنياهم الجديدة وما فيها وتجهلهم هذه الدنيا، لأنهم يعيشون في دنيا قبلها مع إنهم كانوا يحتاجون في هذا القرن إلى مجدد يعرف دنياه الجديدة، ويعرف ما جد في العصر الحديث من علوم ومعارف لينفع المسلمين بها، وينهض بهم كما نهض غيرهم في هذا القرن". 
ويضيف "الصعيدي" أن أوروبا كانت تدعو إلى الحكومات الدستورية منذ أخريات القرن الثامن عشر والتاسع عشر الميلادييّن، وشاغلة بالمخترعات الحديثة والأسلحة الفتاكة، وعلى النقيض من ذلك كان الخلفاء مشغولين بتثبيت عروشهم وقمع الحركات الانفصالية، وصد الهجمات الأوروبية وإحاكة المؤامرات ضد أحرار الفكر، وصياغة الفتاوي التي تحرّم العلوم والفلسفات الغربية، وتبرر في الوقت نفسه انتحال بعض النظم العسكرية والقضائية الأوروبية الحديثة. كما بيّن الصعيدي أن المجددين في القرن الثالث عشر الهجري لم ينجحوا أيضًا في النهوض بالأمة الإسلامية، وذلك لأن بعضهم عُنيّ بالتجديد في الأمور المدنية وأهمل الشئون الدينية –ويقصد هنا مشروع رفاعة (1801-1873م) وعلي مبارك (1823-1893م) في مصر وجماعة الاتحاد والترقي في تركيا-، والبعض الأخر جنح عن الأصول الشرعية والمبادئ العقلية وأضحى عاملًا من عوامل التبديد وليس التجديد –ويقصد هنا الفرقة البابية والفرقة البهائية وعبدة الشيطان وجل التيارات العلمانية المتأثرة بالفلسفات المادية والأيدولوجيات الإلحادية-، والقليل منهم هو الذي عرف الطريق الصحيح وراح يدعو العامة والخاصة للموازنة بين القديم والجديد والموائمة بين الدين والعلم –ويقصد هنا مدرسة الشيخ حسن العطار (1766-1835م) ثم مدرستي الأفغاني ومحمد عبده، غير أن الرجعييّن ورعونة الحكام وجهل الجمهور حال بين أولئك المجددين وبين تحقيق رسالتهم. 
وظل هذا الضعف سائدًا في القرن الرابع عشر الهجري، وزاد عليه خضوع معظم الولايات الإسلامية إلى الهيمنة والسيطرة الأوروبية، واستجاب المسلمون للنعرات القومية التي روّج لها المستعمر، ذلك فضلًا عن تفشي الطائفية والحزبية المليّة في الرأي العام، وانشغل قادة الفكر بألاعيب الساسة وانصرفوا عن رسالتهم الإصلاحية، وراحت الطرق الصوفية ترتع وسط عالم الكسالى والمتنطعين والجامدين، فزيّفت وعي الجمهور وصرفتهم عن البحث في أمور دينهم ودنياهم.
وللحديث بقية.