الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

قراءة في فكر تفتازاني الأزهر الدكتور محمد عبد الفضيل القوصي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إذا كان الله –عزَّ وجلَّ- قد أعلن سنَّته في خلقه، فقال: «مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ»، فإنَّ من سنن الله في خلقه أيضًا أنَّ المناهج الصَّحيحة لا تموت، وأنَّ الأفكار القيِّمة لا يخبو نورها. 
وقد أفضى إلى فضل الله ورحمته تفتازانيُّ الأزهر، وحارس العلوم العقليَّة، الأستاذ الدُّكتور محمَّد عبد الفضيل القوصيّ، عضو هيئة كبار العلماء، ووزير الأوقاف الأسبق، ففقدنا بموته ركنًا من أركان النَّظر والتَّأمُّل المنضبط في المناهج المعرفيَّة المعاصرة، ولكن بقيت فينا أفكاره متوهِّجة، وتحريراته هادية.
وقد طالعت كتابات الرَّاحل مطالعة مُتعلِّمٍ مُتتلمِذ، فانكشف لي من عمقِ فكرِه ما لم ينكشف بالتَّتلمذ بين يديه في قاعات الدَّرس.
وبعيدًا عمَّا قدَّمه الفيلسوف الأديب في حياته العلميَّة، والوظيفيَّة، من جهد قلَّ أن يقوم به إلَّا أمثاله من الأمناء على التُّراث، المدافعين عن ثوابت الإسلام وعقائد المسلمين؛ فإنَّني أتوقَّف عند ملامحه الفكريَّة، تلك الَّتي صَوَّرَتْها كتاباتُه.
ويمكن أن أُوجز مَهمَّة الرَّجل الَّتي نذر حياته لها في ثلاثيَّة، تلتقي ولا تفترق، وتأتلف ولا تختلف، حتَّى إنَّ هذه الثُّلاثيَّة العجيبة لتعبِّر بمجموعها عن شيء واحد مَلَكَ على الرَّاحل فكره، وشغل عليه وقته، وأنطق به لسانه، وأجرى به قلمه.
إنَّها ثلاثيَّة «الأزهر، والأمَّة، والتَّجديد»، تلك الثُّلاثيَّة الَّتي عالجها فضيلة الدُّكتور في مزجٍ يؤكِّد أنَّ عراها لا تنفصل، وأنَّه لا يستقلُّ أحدها عن صاحبيه؛ وعلى عظمة كلِّ واحد من هذه الثَّلاثة، إلَّا أنَّنا يمكن أن نختصرها في عبارة واحدة، وهي أنَّ: «الأزهر عقل الأمَّة المجدِّد».
وهذا العبارة تلخِّص ما كان يؤمن به تفنازانيّ الأزهر المعاصر، وما نذر نفسه، وقلمه، ولسانه للدِّفاع عنه.
لقد وطَّن الفيلسوف الرَّاحل نفسَه على حبِّ الأزهر الشَّريف، ولكنَّه كان في دفاعه عن الأزهر مالكًا لأدوات الفلاسفة، وقِيَم المفكِّرين، وآداب العقلاء، فلم يكن حبُّه عصبيَّة عمياء، أو حميَّة مندفعة، وإنَّما كان الحبُّ المقرون بالإيمان الجازم بأهميَّة النَّقد العلميِّ الهادف المتبصِّر لغةً ومقصدًا.
لقد أدرك الرَّجل بعقله الفذّ خطورة هذه الموجات الصَّاخبة الَّتي تدقُّ أبواب الأزهر الشَّريف، محاوِلةً إهدار موقعه العلميِّ والفكريِّ المكين، سعيًا إلى إزاحته، أو زَحْزَحَتِه عن مكانته التَّاريخية العتيدة، لتخلو السَّاحة أمام المتربِّصين الَّذين يَتَحَّرقون شوقًا إلى «غيابه» عن ساحة الفكر والرَّأي والتَّوجيه.
وكان –رحمه الله- يرى ببصيرة أهل العلم نُذُرَ ما يحمله المستقبل من العواقب الَّتي ستؤول إليها مجريات الأحداث لو استمرت وتيرة تلك الموجات الَّتي تستهدف الأزهر، وتسعى لتقزيم دوره، وإضعاف أثره.
فلو غاب الأزهر لغاب جزء من «عقل» الأمَّة الَّذي يقوم الأزهر أمينًا عليه، وحينئذ لن تجد من يقوم معتضدًا بنصوص القرآن والسُّنَّة مدافعًا عن نقاء الإيمان، وصفاء الإسلام. ولن تجد من يقف كالطّود الشَّامخ مدافعًا عن «سماحة» الإسلام وبُعْده عن الغلوِّ، ويجلو عن صفحته البيضاء ما أصابها من جَرَّاء التَّهالُك على شهوة السُّلطة وأرائك السُّلطان وإن سُفِكَت في سبيلهما الدِّماء، وتقطَّعت الأشلاء، وتمزقت الأوطان. ولن تجد أيضًا من يكشف حقيقة النَّاعقين الزَّاعقين بخلط الدِّين خلطًا شائهًا بلُعبة السُّلطة، وأحابيل السِّياسة، تحت دعوى الإسلام، وإقامة الشَّرع، وغير ذلك من شعارات أثبت الواقع وأحداثه زيفها، وأنَّهم يتَّخذونها شعاراتٍ ليس إلَّا!
لو غاب الأزهر لغاب جزء من «عقل» الأمَّة، وحينئذ لن تجد من يقف لحرفيَّة الفهم، وضيق الرُّؤية، وشَكْلانية التَّصوُّر، الَّتي تنادي بها جماعات النُّصوص، والَّتي وقفت بالدِّين عند «أشكال ومظاهر جوفاء»، تناقض ما عليه العمل عند جمهور علماء الأمَّة بمذاهبها المتعدِّدة، وفهومها المتنوِّعة. ولن تجد أيضًا من يقف للعقلانيَّة الحرَّة المطلقة السَّراح، الَّتي تنادي بتأليه «العقل» وجعله حاكمًا مقدَّمًا، دون ضبط مسيرته بمعايير «النَّقل»، والتَّمسّك بجَمع اليدين «بميزان الاعتدال» الَّذي يجمع في توازن فعَّال بين النَّقل والعقل، وبين الإيمان والفكر، ومن ثمّ بين الآلهيَّات والإنسانيَّات!!
لو غاب الأزهر لغاب جزء من «عقل» الأمَّة، الَّذي وقف لقضيَّة «عموميَّة النَّصّ» الَّتي يعمِد فيها بعض منحرفي الفهم إلى الآيات القرآنيَّة الكريمة، فينزلونها حيث لا يجب أن تنزل، ويجعلونها فيمن لا يجب أن تكون فيهم، في حَرْفِيِّة غشوم، وفى تعميم مغلوط على المسلمين؛ فيستبيحون بذلك الدِّماء والأشلاء، فتترعرع بذلك بذور الإرهاب، وحصاده المرَّ.
لقد أدرك الشَّيخ الفيلسوف أنَّ قضيَّة تجديد الخطاب الدِّيني، أعمق من أن تكون وظيفة، أو مَهمَّة تُلقى على كاهل هيئة، أو مؤسَّسة إبراءً للذِّمَّة، أو أن يُختصر في كلماتٍ، ومؤتمرات، ولقاءاتٍ لا يتجاوز أثرها المحصول اللَّفظي الَّذي طُرح فيها.
وإنَّما يمثِّل تجديد الخطاب الدِّينيِّ عند الفيلسوف الأديب منهاجًا واعدًا يهدف إلى إيقاظ الضَّمير العام، وشحذ إرادة الأمَّة، واستنهاض عزيمتها لتقوم من كبوتها، واستنفار طموحها وقواها المذخورة لتفيد منها، حتى تضع أقدامها على طريق النَّهضة الحضاريَّة الشَّاملة.
وببصيرة العالم المشغول بهموم أمَّته وأحداثها يوضِّح «القوصيُّ» مسارات التَّجديد الصَّحيح، ويجعلها في ثلاثة خطوط متوازية، ينبغي أن يعمل عليها الخطاب، تتمثَّل أولاها في حبِّ الأوطان الَّذي يحتاج إلى تلاقح العقول والأفكار في جوٍّ من الحريَّة النَّاقدة النَّافعة، بعيدًا عن أي كهنوت ثقافيٍّ أو سياسيٍّ أو أيديولوجيٍّ.
ويتمثَّل الخطُّ الثَّاني في النَّهضة العلميَّة والوثبة الحضاريَّة الَّتي أُمرت بها الأمَّة يوم أن بدأ الوحي بـ«اقرأ»، فالإسلام لا يرضى أن تكون الأمَّة خانعة ولا مستكينة، وقد حباها الله بمقوِّمات من: عدد، ومساحة، وبحار، وثروات، وعقول، يجعلها جديرة بأن تكون أمَّةً متقدِّمةً فاعلةً مؤثِّرة، لا أن تكون متأخِّرةً مفعولًا بها متأثِّرة.
بينما يتمثَّل الخط الثَّالث في ربط وعي أصحاب القرار بالتَّحديات الَّتي تواجهها الأمَّة، داخليًّا وخارجيًّا.
وفي هذه الخطوط الثَّلاث ينبغي أن يكون الخطاب الدِّينيُّ، فهي مجالات التَّجديد بعيدًا عن المحصول اللَّفظيِّ الَّذي تسمع به ولا ترى له أثرًا.
لقد حقَّ لشيخ الأزهر أن ينعى الفقيد، وأن يحتسبه عند الله، وأن يصفه بأنَّه «رفيق العمر، وزميل رحلة العلمِ والتَّعلمِ» وبأنَّه: «الفيلسوف، والمنافحَ عن تراثِ المسلمين»، وأنَّه: «صاحب المؤلفات العلميَّة العميقة الرَّصينة، ورائد المدرسة الأشعريَّة الحديثة، وفارس الدِّفاع عن ثوابت الإسلام وعقائد المسلمين».
وحقُّ لنا أن نتذاكر الرِّجال ومناهجهم، وأفكارهم، وأن نحثُّ تلاميذ الفقيد بأن يقوموا بما يجب عليهم تجاه فكر شيخهم، وحمل رايته وإكمالِ مسيرته من بعده، ومواصلة ما نذر له نفسَه وحياتَه؛ من حفاظٍ على التُّراث العقليِّ، وتجديدِه، وتقديمِه للأجيال بمسؤولية العالم الَّذي لا يطلب رضا النَّاس بغضبِ الله، والدِّفاع عن الأزهر مؤسَّسة العقل والنَّقل في آن معًا.
رحم الله الفقيد الَّذي لم تمت أفكاره، ولم يغيِّب الثَّرى منهجه.
*مدير عام شئون هيئة كبار العلماء