الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

فن التجاهل

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
في نوبة من نوبات صحوه القليلة، وقف أمام مرآته الرخيصة يحض نفسه على المحاولة.. محاولة البقاء في مواجهة الألم: «كيف تكون الحياة إذا لم نملك الجرأة على المحاولة؟».
كل محاولاته لدرء شبح الوحدة، والهزائم المتوالية، وانكسار الروح، باءت بالفشل، كل محاولاته لفهم العالم وما يدور فيه، وعندئذ تأكد من دقة ما قاله جراهام جرين «في الواقع لا يمكن لإنسان أن يفهم آخر، ولا يمكن لأحد أن يخطط لسعادة آخر».
لم يجد ذلك الوحيد كشجرة من ينصحه «عندما تتعلق بأحد، كن مستعدا دائما لغيابه». كما لم يلتق يوما بـ«شابلن» ليخبره: «لكى تعيش عليك أن تتقن فن التجاهل باحتراف». لذا أصابته العلل ونوبات الغضب والحزن اللعين.
هزائمه في هذا العالم القميء، فاقت هزائم الفلاحين، الذين جرحتهم السنابل الذهبية، ولم يعرفوا لها طعما، ليتأكدوا من أن «شابلن» كان جادا جدا عندما قال «الجوع لا ضمير له».
قلب مدينته المتيبس، دفعه بقسوة للسير في الطرق الضبابية، ولأننا نعرف أن المرء «يتغير لسببين، حين يتعلم أكثر مما يريد، وحين يؤذى أكثر مما يستحق». فإننا نفهم جيدا لماذا اتسعت عيناه ذلك النحيف، من طول ما نظر إلى السماء، لعله يعثر على نوافذ الله.
ولأن «عواطفنا مثل نوبات التشنج، تجعلنا أقوياء لفترة، ثم تتركنا ضعفاء إلى الأبد» كما قال شكسبير. فقد تعكز على صليب خشبى صغير، ليمسح الغبار الكثيف عن الأرواح المرهقة، ربما تهدأ روحه المتعبة، بين هؤلاء الحقيقيين، لأنه يعرف جيدا، أن الصامتين قد يملئون الدنيا مرحا، والثرثارين قد يمنحونك الغم بدم بارد.
ملابسه وأغطيته وألوانه الزاهية، التى وهبها للتعساء، لم تشفع ليقبله هذا العالم الباهت. قلبه الملىء بالوجد والأحلام الخضراء، لم تثن «أولمبيا» عن الغياب.
لم يكن يعرف ذلك المبشر بالنجوم والسنابل والضمادات الملطخة بالهزائم بنبوءة أوفيد «الحب ضرب من الحرب».. الحرب التى لم ينجو فيها من نحيب العالم المستعر بالمحبين والمثاليين، والمجرمين، والقتلة، والرعاع.
الحب وحده هو من قاده إلى الجنون، والنوم فوق الشراشف المهترئة، للمصحات المعتمة، الحب وحده هو من جلب له نظرات المستهزئين، ولعنات الأطفال، والعجائز في الشوارع الموحلة.. الحب وحده هو من قاده إلى الانزواء بعيدا، ليمنح نفسه الخلاص من كل هذا العبث برصاصة هى الشاهد الوحيد على بشاعة هذا العالم.