الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

بروفايل

فولتير.. روح السخرية

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فولتير، الفيلسوف والروائي الفرنسي الأشهر، أحد كبار فلاسفة عصر التنوير في أوروبا، أثار الجدل بكتاباته وآرائه، وملأ الدنيا ضجيجًا لرفضه كل القيم والأعراف السائدة؛ كما أنه حارب الجميع فتم نفيه خارج فرنسا لعدة سنوات، فوصف نفسه في إحدى رسائله لصديقه ريتشارد رولت قائلًا "روحي حرة في كل مكان".
اسمه الحقيقي فرانسوا ماري أرويه، من مواليد باريس عاصمة النور، وكان الأخ الأصغر لخمسة إخوة كان هو الوحيد الذي عاش منهم، وكان والده موظفًا في وزارة المالية، وكانت والدته تنحدر من أصول نبيلة.
وتلقى تعليمه في إحدى مدارس اليسوعيين، حيث تعلم اللاتينية، كما أصبح في فترة لاحقة من حياته بارعًا في اللغتين الإسبانية والإنجليزية؛ وعندما أنهى دراسته عقد العزم على أن يصبح كاتبًا، رغم أن والده كان يريده أن يعمل بالمحاماة، ولكن الابن الذي لم يشأ إغضاب والده تظاهر بأنه يعمل في باريس في مهنة مساعد محامِ، بينما كان يقضي معظم وقته في كتابة الشعر الهجائي، وعندما اكتشف والده الأمر أرسله لدراسة القانون؛ ثم استطاع أن يحصل له على وظيفة سكرتير السفير الفرنسي في هولندا، ليقع الشاب في هوى لاجئة فرنسية تدعى كاثرين أوليمب فتم إجباره على العودة إلى فرنسا مرةً أخرى.
دخل فولتير في مشكلات عِدة مع السلطات بسبب هجومه المتحمس على الحكومة وعلى الكنيسة الكاثوليكية، وفي العشرينيات من عمره اشترك في المؤامرة التي تزعمها الكاردينال جيوليو ألبروني ضد فيليب الثاني دوق أورليون، والذي كان وصيًا على عرش الملك الصغير لويس الخامس عشر؛ لنقل الوصاية إلى عم الملك الصغير ملك إسبانيا؛ وبحجة كتابته لبعض الأشعار الهجائية عن الأرستقراطية، تم الحكم عليه بالسجن في الباستيل لمدة أحد عشر شهرًا، ليكتب هناك أولى أعماله المسرحية "أوديب"، التي كان نجاحها أول ركائز شهرته الأدبية.
اتخذ فرانسوا اسم "فولتير" عام 1718 بعد الفترة التي تم فيها احتجازه في سجن الباستيل علامة على انفصاله الرسمي عن عائلته وماضيه، واستمر بهذا الاسم بقية حياته، وكانت البديهة النقدية التي يتمتع بها جعلته شخصية غير محبوبة بين الكثيرين من معاصريه؛ بما في ذلك الكثيرين ممن ينتمون للطبقة الأرستقراطية الفرنسية، وتم نفيه إلى إنجلترا لمدة عامين، وتركت التجارب التي مر بها هناك أكبر أثر في العديد من أفكاره.
في إنجلترا تأثر الشاب بالنظام البريطاني الملكي الدستوري، وقارنه بالنظام الفرنسي الملكي المطلق، وكذلك دعم الدولة لحرية التعبير عن الرأي وحرية العقيدة، أيضًا تأثر بالعديد من كُتّاب عصره الذين ينتمون للمدرسة الكلاسيكية الحديثة، وزاد اهتمامه بالأدب الإنجليزي، خاصةً أعمال شكسبير التي لم تكن قد نالت قدرًا كبيرًا من الشهرة في أوروبا في ذلك الوقت، ثم عاد إلى باريس مرة أخرى لينشر آرائه حول الموقف البريطاني من الحكومة، الأدب، والعقيدة في صورة مجموعة من المقالات التي تأخذ شكل الخطابات، والتي لاقت اعتراضات كبيرة في فرنسا، لدرجة القيام بإحراق النسخ الخاصة بهذا العمل وإجباره مرةً أخرى على مغادرة فرنسا.
ظهرت موهبة فولتير الشعرية في بداية حياته، وكانت أول أعماله المنشورة من الشعر، وكتب قصيدتين طويلتين؛ وهما إضافة إلى العديد من المقطوعات الشعرية، وجاءت أعماله في البداية مكتوبة بشكل يحاكي أعمال فيرجيل، كذلك جاءت بعض قصائده وكأنها محاكاة ساخرة يُهاجم فيها بعض المفاهيم الدينية والتاريخية؛ أما أعماله التي صاغها نثرًا، والتي جاءت عادةً على هيئة كُتيبات هاجم فيها التفاؤل الديني والفلسفي، وأخرى هاجمت بعض الأساليب الاجتماعية والسياسية التي كانت سائدة في ذلك العصر، أما روايته المعروفة باسم "زاديج" فقد هاجم فيها الأفكار التي يتم تناقلها عبر الأجيال والخاصة بالقيم والمبادئ التي تقوم عليها العقيدة الأرثوذكسية، بينما كان هدفه من كتابة بعض هذه الأعمال هو السخرية من الكتاب المقدس.
وتشترك كتابات فولتير الأدبية مع أعماله الأخرى في استخدامها بوجه عام لأسلوب النقد، إضافة إلى التنوع في الموضوعات التي يتناولها، فقد كان يسبق كل أعماله الأساسية تمهيد يمكن اعتباره نموذجًا لنبرة السخرية اللاذعة التي تميز أعماله، والتي لم تمنعه من استخدام تلك اللغة العادية المستخدمة في أحاديث الناس، ويعتبر أكبر الأعمال الفلسفية التي أنتجها هي المقالات التي خصصها لانتقاد المعاهد السياسية الفرنسية، وأعدائه الشخصيين، والكتاب المقدس، والكنيسة الرومانية الكاثوليكية، كذلك انتقد السياسة الاستعمارية الفرنسية في أمريكا الشمالية، وعمل على الحط من قدر المنطقة الشاسعة المعروفة باسم ولاية فرنسا الجديدة بوصفها بأنها مساحة ضئيلة تكسوها الثلوج.
كتب فولتير أيضًا عددًا هائلًا من المراسلات الخاصة في الفترة التي عاشها، تبلغ إجمالًا أكثر من عشرين ألف رسالة، أظهرت شخصيته والحيوية التي يتمتع بها وتعدد الجوانب في شخصيته وقدرته على التملق التي لا يتردد في استخدامها، وسخريته قاسية القلب، ومقدرته المهنية المجردة من المبادئ الخلقية، وتصميمه على الخداع والتحريف في أي اتجاه يرى فيه مصلحته أو يستطيع به الهروب من أعدائه.
في فبراير عام 1778، عاد فولتير لأول مرة منذ عشرين عامًا إلى باريس ليشهد افتتاح آخر أعماله التراجيدية وهي مسرحية "إيرني"، فسافر لمدة خمسة أيام، وكان يناهز الثالثة والثمانين من عمره، واعتقد أنه على شفا الموت فكتب "أنا الآن على شفا الموت، وأنا أعبد الله، وأحب أصدقائي، ولا أكره أعدائي، وأمقت الخرافات"، لكنه تماثل للشفاء وشهد عرض المسرحية، لكنه سرعان ما مرض ثانيةً وتوفي في الثلاثين من مارس في عام 1778، وفي لحظات احتضاره طلب منه القسيس أن يتبرأ من الشيطان ويعود إلى إيمانه بالله، فقال "لا وقت لدى الآن لأكتسب المزيد من العداوات، كرمي لله، دعني أرقد في سلام"، ولم يتم السماح بدفنه وفقًا للشعائر الكاثوليكية، فقام أصدقاؤه بدفن جثمانه سرًا في إحدى الكنائس الكبيرة في مقاطعة شامباين.