الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

أزمة التجديد وغيبة المدارس الفكرية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

لعل أكثر الروابط اتساقًا بين هذين المصطلحين هي علاقة التداخل وما يتبعها من تلازم فإذا ما استعرضنا تصانيف المفكرين عن التجديد والمجددين وكتاباتهم عن المدارس الفكرية سوف ندرك أن كل المعنيين بدراسة هذا الموضوع قد اتفقوا فيما بينهم على تحديد المفاهيم ووقفوا كذلك على أهم المعوقات والأزمات التي تحول بين التقدم الثقافي وغيبتهما.

فالتجديد هو وسط بين التقليد والتبديد وأن آلياته هي الاجتهاد والنقد لتحديد الثابت والمتغير في القضايا المطروحة وأن مقصده هو إيجاد حلول للمشكلات التي تعوق العقل الجمعي عن النهوض والتقدم.

أما المدارس الفكرية فتتشكل عقب رسوخ مناهج التجديد التي تشغل نقطة مركز الدائرة وعلى طرفيها تحتل منابر المحافظين والمُحَدِثين كفتي الميزان.

وكلما اتسعت وكثرت المساحة التي تشغلها منابر التجديد، تتراجع وتضعف سلطة المحافظين والمُحَدِثين.

وتشهد الواقعات التاريخية أن وجود أشكال التطرف والجموح، وظهور الجماعات الرجعية والجماعات الفوضوية مرتبطًا بضعف مدارس الوسط أي المدارس الفكرية التي تحمل لواء التجديد والإصلاح والتنوير والوعي وتنجح في إعادة بناء الطبقة الوسطى باعتبارها المسئول الأول عن دفع المجتمع قدمٌ للأمام.

وإذا ما انتقلنا إلى ميدان التفكير الديني ومدارسه التي تنتج الخطابات والمشروعات، فسوف نتبيّن أن معظم المجددين في الفكر الديني كان مقصدهم الأول هو توضيح الثابت الذي يجب اقتفاؤه والمتغيّر الذي ينبغي تطويره وتحديثه (المنقول والمعقول)، وذلك استنادًا على استنباط مقاصد النصوص واستقراء حاجات الواقع.

والجدير بالذكر في هذا السياق أن جل المنابر الفكرية التي ظهرت منذ أخريات القرن الثامن عشر إلى النصف الأول من القرن العشرين، قد اتسمت خطابتها بالجدة والأصالة والاتساق والموضوعية في مناقشة القضايا والواقعية في انتخاب الحلول لمشكلات الواقع والتفاؤل في استشراف المستقبل، ذلك فضلًا عن تواصل روادها المتمثل في وحدة المقصد من جهة والمنهج من جهة أخرى وذلك دون أدنى تقليد للاحق عن السابق، أو التعلق بالمذهب والنهج دون إعادة تقييمه ومراجعته وتطويره.

والشيخ "عبد المتعال الصعيدي" كان من هذا الطراز فقد سار على نهج منابر المجددين ولم يخرج عن نهجهم في الإصلاح ولا منهجهم في الاجتهاد، الأمر الذي أثمر خطابًا أكثر تقدمًا ومشروعًا أقدر موائمة مع متغيرات العصر.

وسوف نحاول في السطور التالية توضيح قواعد منهجه وسمات آراءه التي تعد بحق تطورًا فائقًا لمدرسة الأستاذ الإمام "محمد عبده".

- التأليف بين التراث والتجديد في استنباط الحلول المناسبة للقضايا المطروحة.

فلم يكن التراث عند شيخنا عائقًا أمام التجديد أو التطوير أو التحديث، وذلك بعد عرض الموروث الثقافي والعقدّي على مائدة النقد، لاستبعاد الدخيل والمتوهم والمنحول والمدسوس، والإبقاء على قطعي الثبوت وقطعي الدلالة من التراث العقدّي (القرآن وصحيح السنة)، والنافع من العادات والتقاليد التليدة.

فالإحياء عند "الصعيدي" لم يكن تكرارًا أو إعادة للموروث من الأفكار أو الآراء الفقهية أو المؤلفات والتحقيقات والحواشي والشروح الثقافية، بل غربلة وانتقاء لانتخاب ما يصلح للواقع المعيش. ليثبت أن في مقدور الفكر الإسلامي مواكبة العصر والتصدي لمشكلاته الحديثة دون عنت أو جمود. وقد نجح "الصعيدي" بذلك في تطوير القاعدة الأولى من منهج الأستاذ الإمام "تحرير الفكر من قيّد التقليد والرجوع بالدين إلى سذاجته الأولى".

- الاتساق في الرأي، لا نكاد نجد من بين آراء "الصعيدي" ما يناقد المفاهيم التي وضعها للمصطلحات الرئيسة لخطابه ألا وهي "الأصولية، التجديد، الإصلاح، التساجل، حرية الفكر، عالمية الإسلام، حقوق الأغيار في بلاد المسلمين، المواطنة، رفض الإسلام للإرهاب والتطرف والشطط والمجون وانتصاره للوسطية والعقلية الإسلامية الجامعة بين الدين والعلم والأخلاق والسياسة في بناء الأمة."

- النسقية في بناء الخطاب المشروع من حيث ترابط الأفكار والتصورات والرؤى بنهج منطقي يتفق مع العقل من جهة ويتناسب مع مقتضيات الواقع من جهة أخرى.

فيمتاز خطاب "الصعيدي" بأن آراءه في نقد الموروث لا تتعارض مع تمسكه بالأصول العقدّية والمقاصد الشرعية، وأن انتصاره للمعقول لا يناقض الصحيح والثابت من المنقول، كما أن تأثره بالنهوج الغربية والاتجاهات الحديثة في معالجة بعض القضايا الشرعية لم يجنح به إلى منحدر الاجتراء والمروق والتجديف، وقد سار على نفس النهج في تطبيق اقتراحاته وتصوراته الإصلاحية في شتى الميادين (التعليم، السياسة، الفقه، التصوّف، الأوضاع الاجتماعية والمنابر الثقافية).

- تقديم المعقول على المنقول في التناظر مع الأغيار، ويبدو ذلك واضحًا في رده على أكاذيب المستشرقين وادعاءاتهم التي أرادوا بها تشويه صورة الإسلام. وقد أقبل كذلك على التحاور مع الجهلاء وقليلي العلم من المتطاولين على المبادئ الشرعية والأوامر الإلهية. وكذا تبصير الجامدين من العلماء بما فاتهم من حقائق وإخبارهم بحسن مقصده وسلامة رأيه، وكان موفقا إلى حد كبير في مخاطبته الخواص والعوام، وقد انتحل منهج ابن رشد (1126م-1198م) ومن بعده منهج الأستاذ الإمام "محمد عبده" في مناظرة الأغيار وتفهيم العوام وتوعيتهم وتقويم معارف العلماء من المخالفين. وقد قدم المعقول على المنقول حتى لا يلزم مناظره بما يرفض أو يصادر على المطلوب.

ويبدو ذلك بوضوح في كتابه المشهور "لماذا أنا مسلم؟" -الذي صدر عام 1936م- ذلك الذي رد فيه على ادعاءات القس "صموئيل زويمر (1867م-1952م)"، الذي جمع جل مزاعم دوائر الاستشراق العقدّي وأكاذيب غلاة المبشرين وراح يروج لها بين الشباب العربي المسلم الذي جهل حقيقة التراث الإسلامي وراح يلتمس معارفه من الدوائر الغربية التي لا تخلو من العنت والتعصب وطمس الحقائق.

وقد اختار "عبد المتعال الصعيدي" هذا المستشرق للرد عليه وتفنيد آرائه لإدراك مدى خطورة أحاديثه وكتاباته على العوام والخواص، أضف إلى ذلك دعم الاحتلال الإنجليزي له وتمكينه من التواصل مع مختلف طبقات المجتمع المصري، أضف إلى ذلك نهج "صموئيل زويمر" في التبشير الذي كان يعتمد على تشكيك محاوريه في الثوابت العقدّية، وها هو يصرح بذلك في قوله "إن تبشير المسلمين يجب أن يكون بلسان نفرٍ منهم نستقطبه نعلمه، ثم ندسه بين صفوفهم، لأن الشجرة يجب أن يقطعها أحد أبنائها."

والأخطر من ذلك أن "زويمر" قد صرح في مؤتمر المبشرين المنعقد في "القدس عام 1935م" أن الهدف الحقيقي لجماعات الاستشراق والتبشير هو إبعاد المسلم عن دينه في المقام الأول حتى يكون تابعًا للاحتلال الغربي، ومعاونًا في الوقت نفسه لهدم الإسلام من الداخل ونشر الإلحاد في الطبقة الوسطى المثقفة.

والجدير بالإشارة في هذا السياق أن "عبد المتعال الصعيدي"، قد ألف كتابه هذا في قالب قصصي حواري بين طرفين أولهما "القس ز" وثانيهما "محمد" الشاب المثقف العارف بأسلوب دينه. ويعني ذلك أن المناظرة بين الشيخ "الصعيدي" و"زويمر" ليست حقيقية بل متوهمة بل من تأليفه على غرار (قصة علم الدين) لعلي مبارك (1823م-1893م)، و(حديث عيسى بن هشام) لمحمد المويلحي (1858م-1930م).

وإذا كان الصعيدي قد طور كثيرا في نهجه الجدلي مع المستشرقين فإن خطابه مع أواسط المثقفين من غير المتخصصين في العلوم الشرعية كان نموذجا في الوضوح والبساطة في العرض والدقة العلمية في المناقشة، ويبدو ذلك واضحا في كتابيه (حرية الفكر في الإسلام) و(الحرية الدينية في الإسلام). أما معاركه الفكرية فكانت أقرب إلى منطق المحاججة ولغة البرهان وأبعد ما تكون عن أسلوب القدح الشخصي وتجريح الخصم وتخويفه أو الكذب والتدليس عليه، الأمر الذي كان شائعا في مناظرات معظم المثقفين آنذاك، ويمكننا أن نراجع في ذلك محاورته مع الشيخ عيسى منون (1889م-1956م)، ورده على الشيخ خالد محمد خالد (م1920-1996م)، وعلي عبد الرازق (م1888-1966م)، وطه حسين (1889م-1973م)، وإسماعيل أحمد أدهم (1911م-1940م)، وغيرهم من قادة الرأي في عصره، وتشهد بذلك كتاباته (في ميدان الاجتهاد)، (تاريخ الإصلاح في الأزهر وصفحات من الجهاد في الإصلاح)، (المجددون في الإسلام من القرن الأول إلى الرابع عشر)، (في الحدود الإسلامية).

وللحديث بقية..