الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

"صلاحُ القلبِ وسلامتُهُ"

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

لصلاح القلبَ أثرٌ كبيرٌ في سلوك صاحبه، إذ بصلاحه تصلُح الأعضاءُ، وتستقيم أحوالُ الإنسانِ، ولذا فالقلوب منها الأبيض الطاهر النقي، الذي يعفو ويصفح، ويتجاوز عن سيئات الآخرين، والأسود الذي يملؤه الغل والحقد والحسد.
وقد علّق الله تعالى النجاة والفوز يوم القيامة بسلامة القلوب وصلاحها. قال تعالى: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} [الشعراء: 88، 89]، كما كان رسول الله  حريصًا كلَّ الحرص أن يُعلِّمَ صحابَتَه، ويغرسَ فيهم صلاح القلب وسلامته من كل ما يفسد عليهم أمر دينهم.
وإنما كان هذا الاهتمام بالقلب لأنه: هو ملك الجوارح كلها، والمؤثر فيهما، فالجوارح ما هي إلا مترجمة عما في القلب، فإن كان القلب صالحًا صلحت الجوارح، وإن كان القلب فاسدًا فسدت سائر الجوارح، قال : «إِنَّ الْحَلَالَ بَيِّنٌ، وَإِنَّ الْحَرَامَ بَيِّنٌ... أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ، صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ، فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ» [متفق عليه]
ولذا فالتقوى في الحقيقة هي تقوى القلوب لا تقوى الجوارح، قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32)} [الحج: 32]، وقَالَ : «الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَخْذُلُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ التَّقْوَى هَاهُنَا» وَيُشِيرُ إِلَى صَدْرِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ [صحيح مسلم].
وقد كان رسول الله  يدعو الله  بصلاح القلب وهدايته، وسلامة الصدر، وهو أكمل الخلق خُلُقًا ودينًا، فكان ذلك تعليمًا لأمته، فعن ابن عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ  كَانَ يَدْعُو: «رَبِّ أَعِنِّي وَلاَ تُعِنْ عَلَيَّ، وَانْصُرْنِي وَلاَ تَنْصُرْ عَلَيَّ... رَبِّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي، وَاغْسِلْ حَوْبَتِي، وَأَجِبْ دَعْوَتِي، وَثَبِّتْ حُجَّتِي، وَاهْدِ قَلْبِي، وَسَدِّدْ لِسَانِي، وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ قَلْبِي».[سنن أبي داود]
وقد كان من دعاء المؤمنين أيضًا السلامة من الأمراض القلبية: قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)} [الحشر: 10].
وحينما سُئِل رسولُ اللَّهِ : أَيُّ النَّاسِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: «كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ، صَدُوقِ اللِّسَانِ»، قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ، نَعْرِفُهُ، فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: «هُوَ التَّقِيُّ النَّقِيُّ، لَا إِثْمَ فِيهِ، وَلَا بَغْيَ، وَلَا غِلَّ، وَلَا حَسَدَ».[سنن ابن ماجه].
وقد امتن الله -جل شأنه- على أهل الجنة بنزع الغل من صدورهم؛ فقال سبحانه: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)} [الأعراف: 43].
ويبقى السؤال: كيف أستعين على صلاح قلبي وسلامته؟
من الأمور التي تعين على صلاح القلب وإستقامته: 
أولًا- حسن اللجوء إلى الله ، والإلحاح عليه في الدعاء بصلاح القلب: قال : «إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ، كَقَلْبٍ وَاحِدٍ، يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ» ثُمَّ قَالَ: «اللهُمَّ مُصَرِّفَ الْقُلُوبِ صَرِّفْ قُلُوبَنَا عَلَى طَاعَتِكَ».[صحيح مسلم]، فمن لجأ إلى الله تعالى، سائلا صلاح قلبه،متحريًا أوقات الإجابة، فحريٌّ أن يُجَابَ له. قَالَ : «إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَخْلَقُ فِي جَوْفِ أَحَدِكُمْ كَمَا يَخْلَقُ الثَّوْبُ الْخَلِقُ، فَاسْأَلُوا اللَّهَ أَنْ يُجَدِّدَ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِكُمْ».[مستدرك الحاكم]
ثانيًا- أن يعلم العبد علم اليقين أن الله  مُطَّلِعٌ على قلبه؛ ليكون أمام الله تعالى في أحسنِ حالٍ ظاهرًا وباطنًا. قال: «إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ»[صحيح مسلم]
ثالثًا- أنْ يعلم العبد أن معيار التفاضل عند الله  هو التقوى، وليس الحسب، أو الجنس، أو اللون.
قال: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ! أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى..."الحديث [مسند أحمد]
رابعًا- أن يستشعر العبد مراقبة الله  له في جميع أحواله: فعلى المؤمن أن يستشعر دائمًا أن الله  رقيب عليه في جميع أحواله، وحركاته، وسكناته، ظاهره وباطنه، وأن ما يكون في القلوب محل نظر الله ، وأنه محاسب عليه يوم القيامة. فالله  يقول: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19)} [النحل: 19]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1) } [النساء: 1، 2]؛ ولذلك قال الله تعالى: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} [الشعراء: 89].
وفي حديث سيدنا جبريل ، عندما أتى للنبي  يسأله عن الإيمان والإحسان، قَالَ: مَا الإِحْسَانُ؟ 
قَالَ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» [صحيح البخاري ومسلم].
وعندما مَرَّ ابْنُ عُمَرَ بِرَاعِي غَنَمٍ فَقَالَ له: يَا رَاعِيَ الْغَنَمِ هَلْ مِنْ جَزْرَةٍ؟ قَالَ الرَّاعِي: لَيْسَ هَا هُنَا رَبُّهَا، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: تَقُولُ: «أَكَلَهَا الذِّئْبُ» فَرَفَعُ الرَّاعِي رَأْسَهُ إِلَى السَّمَاءِ، ثُمَّ قَالَ: فَأَيْنَ اللهُ؟ فَاشْتَرَى ابْنُ عُمَرَ الرَّاعِي وَاشْتَرَى الْغَنَمَ فَأَعْتَقَهُ، وَأَعْطَاهُ الْغَنَمَ" [المعجم الكبير]، فهذا الراعي قد ضرب أروع الأمثلة في استشعاره مراقبة الله تعالى له.
خامسًا- اجتناب المعاصي ومفسدات القلب: فالمعاصي هي سبب نزول البلاء، وما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رُفع إلا بتوبة، قال تعالى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30)} [الشورى: 30]
ومن أخطر آثار الذنوب والمعاصي ما يتعلق بالقلوب ومنها: قسوة القلوب، وعدم تأثرها بالمواعظ والآيات والأدلة والتخويف والتحذير والإنذار، فلا تسمع، ولا تفقه، ولا تقبل.
قال : {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)} [الأعراف: 100]، وقال : "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ، فَإِنْ هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ صَقَلَتْ قَلْبَهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ فَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللهُ {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14]. [سنن النسائي]
فهذه أمور تعين على صلاح القلب، وعلى المسلم أن يَحرصَ أشَدَّ الحِرصِ علَى كلِّ ما يُصلِحه، وأنْ يبتَعِدَ أشدَّ البُعدِ عن كلِّ ما يُفسِدُه، فباستقامِةِ القلبِ وصلاحِه يَفلح العبدُ ويفوز في الدنيا والآخرة.