السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

بروفايل

الشيخ محمد رفعت.. شيخ القراء ومنحة الأقدار

الشيخ محمد رفعت
الشيخ محمد رفعت
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
"هو منحة من الأقدار حين تهادن وتجود، بل وتكريم منها للإنسانية"، بتلك الكلمات وصف الإمام المراغي شيخ الأزهر الشريف، شيخ القراء وقيثارة السماء الشيخ محمد رفعت والذي تحل اليوم السبت التاسع من شهر مايو ذكرى ميلاده ورحيله السبعين على أحد أعلام مدرسة التلاوة المصرية والذي ولد عام 1882 ورحل 1950م.
محمد رفعت بن محمود رفعت بن محمد رفعت، ثلاثة بأسماء مركبة، حظي خلالها الحفيد باسم الجد، وكانت ولادته بدرب الأغوات بحي المغربلين بالقاهرة، ولم يكد يبلغ الثانية من عمره حتى فقد بصره صغيرًا إلا أنه لم يفقد بصيرته، فبدأ حفظ القرآن في سن الخامسة، عندما أدخله والده كُتّاب بشتاك الملحق بمسجد فاضل باشا بدرب الجماميز بالسيدة زينب، وكان معلمه الأول الشيخ محمد حميدة وأكمل القرآن حفظا ومجموعة من الأحاديث النبوية. 
بعد ست سنوات شعر شيخه أنه مميز، بدأ يرشحه لإحياء الليالي في الأماكن المجاورة القريبة، ودرس علم القراءات والتجويد لمدة عامين على الشيخ عبد الفتاح هنيدي صاحب أعلى سند في وقته ونال اجازته، توفي والده محمود رفعت والذي كان يعمل مأمورًا بقسم شرطة الجمالية وهو في التاسعة من عمره فوجد الطفل اليتيم نفسه مسئولًا عن أسرته المؤلفة من والدته وخالته واخته واخيه "محرم" وأصبح عائلها الوحيد بعد أن كانت النية متجهة إلى الحاقه للدراسة في الأزهر، بدأ وهو في الرابعة عشر يحيي بعض الليالي في القاهرة بترتيل القرآن الكريم، وبعدها صار يدعى لترتيل القرآن في الأقاليم.تم تعيينه وهو في سن الخامسة عشرة قارئا بمسجد فاضل باشا بحي السيدة زينب بقلب القاهرة عام 1918، وهناك بلغ من الشهرة ما لم يحظ به أحد في وقته، حتى أن تلك الشهرة بلغت كبار رجال الدولة آنذاك، فحرص كل من الملك فاروق والنحاس باشا على الاستماع لتلاوته، وكان صوته الملائكي بوابته الواسعة لعالم الإذاعة المصرية، بعد أن تم اختياره لافتتاح الإذاعة المصرية عام 1934، فاستفتى شيخ الأزهر محمد الأحمدي الظواهري عن جواز إذاعة القرآن الكريم فأفتى له بجواز ذلك فافتتحها بآية من أول سورة الفتح في لحظة تاريخية صاحبت تلاوته للآية الكريمة "إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا".
كما طلبته عدد من الإذاعات الأجنبية بتسجيل سور قرآنية لبثها، وهو ما قابله الشيخ الجليل بتوجس، بعد أن استفتى الإمام المراغي وأفتاه بعدم حرمانية الأمر، قام بتسجيل سورة "مريم" لهيئة الإذاعة البريطانية. 
بصمة صوت فريدة
تمتع ببصمة صوتٍ لن تتكرر، وأسلوب فريد ومميز في تلاوة القرآن، فكان يتلو بتدبر وخشوع يجعل سامعه يعيش معاني القرآن الكريم ومواقفه بكل جوارحه لا بأذنه فقط، فكان يوصل رسالة القرآن ويؤثر بمستمعي تلاوته، فكان يبدأ بالاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم والبسملة والترتيل بهدوء وتحقيق، وبعدها يعلو صوته، فهو خفيض في بدايته ويصبح بعد وقت ليس بالطويل غالبا "عاليًا" لكن رشيدًا يمسُّ القلبَ ويتملكه ويسرد الآيات بسلاسة وحرص منه واستشعار لآي الذكر الحكيم.
كان اهتمامه بمخارج الحروف كبيرًا، يعطي كل حرف حقه ليس كي لا يختلف المعنى فقط بل لكي يصل المعنى الحقيقي إلى صدور الناس، وكان صوته حقًا جميلًا رخيما رنانا، وكان ينتقل من قراءة إلى قراءة ببراعة وإتقان وبغير تكلف، فقد امتلك طاقات صوتية هائلة، جعلته يستطيع الانتقال بسلاسة شديدة بين المقامات في أثناء تلاوته للقرآن الكريم، ليس هذا فحسب، بل إنه امتلك القدرة على تراسل الحواس لدى المستمعين، فيعلم متى يبكيهم، ومتى يبهجهم من خلال آيات الترغيب والترهيب في كتاب الله عز وجل، فقد أوتي مزمارًا من مزامير داود، وإذا ما وضعنا جماليات الصوت جانبًا لننتقل إلى قوته، فان صوته كان قويًا لدرجة أنه يستطيع من خلاله الوصول لأكثر من 3 آلاف شخص في الأماكن المفتوحة.
كان محافظًا على صوته يتجنب نزلات البرد والأطعمة الحريفة ولا يدخن ولا يتناول طعام العشاء.
ورغم حرصه الشديد، إلأ أن ربه ابتلاه في دُرته، واكتشف إصابته بسرطان الحنجرة، الأمر الذي عاقه عن استكمال تسجيلات القرآن للإذاعة المصرية، وتم الاستعانة عندها بالشيخ أبو العينين شعيشع الذي كان أحد أبرز المتأثرين بتلاوته، علاوة على تشابه صوته الشديد بالشيخ رفعت، وذلك لتعويض الانقطاعات في تسجيلات الشيخ رفعت، وظل على الرغم من هذا الاعتزال حريصا على القراءة في مسجد فاضل باشا، وفاءً للمكان الذي كان أول ما عرّف به في عالم القراءة في بداياته. 
الصوت الباكي الملائكي
لم يغفل المشايخ والعلماء والقراء والأدباء عن وصفه بكلمات حفرت بماء الذهب، فكان أن وصفه الشيخ أبو العينين شعيشع بالصوت الباكي، كان يقرأ القرآن وهو يبكي، ودموعه على خديه، وقال عنه إمام الدعاة الشيخ محمد متولي الشعراوي قال: «إن أردنا أحكام التلاوة فالحصريّ، وإن أردنا حلاوة الصوت فعبد الباسط عبد الصمد، وإن أردنا النفَس الطويل مع العذوبة فمصطفى إسماعيل، وإن أردنا هؤلاء جميعًا فهو محمد رفعت».
بينما قال عنه الأديب محمد السيد المويلحي: "سيد قراء هذا الزمن، موسيقيٌّ بفطرته وطبيعته، إنه يُزجي إلى نفوسنا أرفَع أنواعها وأقدَس وأزهى ألوانها، وإنه بصوته فقط يأسرنا ويسحرنا دون أن يحتاج إلى أوركسترا"، ووصف الأديب الكبير أنيس منصور صوته قائلًا: "ولا يزال المرحوم الشيخ رفعت أجمل الأصوات وأروعها، وسرُّ جمال وجلال صوت الشيخ رفعت أنه فريد في معدنه، وأن هذا الصوت قادر على أن يرفعك إلى مستوى الآيات ومعانيها، ثم إنه ليس كمثل أي صوت آخر".
كما قال موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب إن صوت الشيخ محمد رفعت ملائكي يأتي من السماء لأول مرة.
الزاهد الصوفي
كان الشيخ زاهدًا صوفي النزعة نقشبندي الطريقة يميل للناس الفقراء البسطاء أكثر من مخالطة الأغنياء فقد أحيا يومًا مناسبة لجارته الفقيرة مفضلًا إياها على الذهاب لإحياء الذكرى السنوية لوفاة الملك فؤاد والد الملك فاروق.
وكان بكّاءًا تبل دموعه خديه في أثناء تلاوته حتى انه انهار مرة وهو في الصلاة عندما كان يؤم المصلين يتلو آية فيها موقف من مواقف عذاب الآخرة. وكان ربانيًّا يخلو بنفسه يناجي الله داعيًا إياه.
تراث قدر له يخلد بعضه
كانت معظم تلاوات الشيخ الراحل بمسجد فاضل باشا في القاهرة يقصده الناس هناك للاستماع إلى تلاواته حتى الملك فاروق وكانت تبث الإذاعة المصرية حفلاته من هناك، وكان صيفًا يتلو القرآن في جامع المرسي أبو العباس في الإسكندرية. إضافة إلى تلاواته الحية على الهواء من دار الإذاعة المصرية التي تعاقدت معه من أول افتتاحها لا سيما في رمضان كان يتلو تلاوتين يوميًا على الهواء فيما عدا يوم الأحد وكان يقرأ القراءة الأولى من الساعة التاسعة وحتى العاشرة إلا الربع مساءً والثانية من الساعة العاشرة والنصف وحتى الحادية عشرة والربع مساءً. أما تسجيلاته فكانت جميعها تقريبًا من تسجيل أحد أكبر محبيه وهو زكريا باشا مهران أحد أعيان مركز القوصية في أسيوط وعضو مجلس الشيوخ المصري، والذي يعود له الفضل في حفظ تراث الشيخ رفعت الذي نسمعه حاليا، وكان يحب الشيخ رفعت دون أن يلتقي به، وحرص على تسجيل حفلاته التي كانت تذيعها الإذاعة المصرية على الهواء واشترى لذلك اثنين من أجهزة الجرامافون من ألمانيا، وعندما علم بمرض الشيخ رفعت أسرع إلى الإذاعة حاملًا إحدى هذه الأسطوانات، وطلب من مسئولي الإذاعة عمل معاش للشيخ رفعت مدى الحياة، وبالفعل خصصت الإذاعة مبلغ 10 جنيهات معاش شهري للشيخ رفعت، ولكن الشيخ توفي قبل أن يتسلمه، وتبرعت عائلة زكريا باشا بالأسطوانات لكي تنشر وقد حصل عليها ورثة الشيخ محمد رفعت بعد وفاة زكريا باشا مهران عن طريق زوجته ''زينب هانم مبارك'' فلولا هذه التسجيلات لفقد تراثه الا من 3 تسجيلات تحتفظ بها الإذاعة، ولم تكن لتلك الاسطوانات أثرها في حياة الشيخ فقط بل ''زكريا باشا'' المحب الذي سجل دون معرفة شخصية أو رؤية بـ''رفعت''، وقالت زوجة زكريا باشا: برغم نشاطات زوجي زكريا باشا نوران في الاقتصاد والمحاماة والسياسة والتأليف إلا أن اسمه لم يذكر إلا مقرونًا بأنه الذي سجل مجموعة من التسجيلات للشيخ محمد رفعت.
وأوضحت حفيدته هناءحسين، أن أبناء الشيخ ظلوا طوال حياتهم عاكفين على إعادة إصلاح ومعالجة هذه الأسطوانات، وأن والدها أهدى الإذاعة 30 ساعة بصوت الشيخ رفعت دون مقابل، وهى كل التراث الذي نسمعه حاليا للشيخ رفعت، مؤكدة أن الأحفاد يستكملون المسيرة ويحاولون إنقاذ 30 ساعة أخرى بصوت الشيخ رفعت لم تر النور بعد، ولم تصل إلى آذان محبيه، قائلة: «نقلنا كل الأسطوانات على هارد ديسك، واشتغلنا في كذا استوديو لإصلاحها وتنقيتها، ولكن بقدر إمكانياتنا الضعيفة، ونحتاج استوديوهات عالية التقنية وإمكانيات أكبر من طاقتنا لذلك توقفنا».
وفاته
أصابت حنجرة الشيخ محمد رفعت في عام 1943م زغطة أو فواق تقطع عليه تلاوته، فتوقف عن القراءة. وقد سبب الزغطة ورمٌ في حنجرته يُعتقد أنه سرطان الحنجرة، صرف عليه ما يملك حتى افتقر لكنه لم يمد يده إلى أحد، حتى أنه اعتذر عن قبول المبلغ الذي جمع في اكتتاب (بحدود خمسين ألف جنيه) لعلاجه على رغم أنه لم يكن يملك تكاليف العلاج، وكان جوابه كلمته المشهورة "إن قارئ القرآن لا يهان".
وفارق الشيخ الحياة في مثل هذا اليوم عام 1950م وكان حلمه أن يُدفن بجوار مسجد السيدة نفيسة حتى تقرر منحه قطعة أرض بجوار المسجد فقام ببناء مدفنه عليه، وقد كان من عادته أن يذهب كل يوم اثنين أمام المدفن ليقرأ ما تيسر من آيات الذكر الحكيم.