الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

سلامة الأمة وثنائية الحب والحرب "2"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لم يحد "حسين المرصفي" عن نهجه الذي اصطنعه، ذلك الجامع بين النظر والعمل ويتمثل ذلك في تحليله وشرحه وتبسيطه المفاهيم والاصطلاحات والدلالات، وذلك بعد عرضها على العقل والواقع حيث الدلالة الإجرائية. 
والعمل الذي يستند على مبدأ المنفعة العامة في التخطيط وثقافة العصر وثوابته ومتغيراته في التطبيق.
وقد فَعل ذلك النهج في تناوله لثنائية "الحب والحرب"، فالحب عنده يمثل كل الفضائل الراقية المؤدية إلي سبيل الكمال والجمال ـــ كما بيّنا ــــ وألية التضامن والألفة والتعاون بين أفراد المجتمع، أما الحرب فتعبر عن نقيض ذلك تماماً فالشر حربٌ على الخير، والكراهية والعنف والحقد حربٌ على الحب، والخيانة والكذب والانتهازية والغش حربٌ على الألفة والمودة والتراحم بين أفراد المجتمع، والتعصب والإرهاب والإستبداد والقهر والظلم حربٌ على سلامة الأمة.
ويعني ذلك كما ذكرنا أن مفكرنا إنطلق من عاطفة الحب لترسيخ سلم الفضائل في النشأ من جهة وتوجيه المناهج التربوية صوب الفضيلة الجامعة لكل الخصال والسمات التي ينبغي غرسها في الشبيبة ليصبح إنساناً راقياً، ومواطناً صالحاً.
وقد نجح مفكرنا بطريق غير مباشر في معالجة ثنائية أخرى ألا وهي "المنقول والمعقول"، مبيناً أن الدين لم يكن قط محرضاً على العنف أو مسبباً في الشقاق بين الناس، بل أن الفهم الخاطئ للنصوص الإلهية بمنئ عن الفهم الصحيح لمقاصدها هو علة غياب الحب بيننا وإستحالته إلى أطماع مادية وأغراض شهوانية.
وذهب إلى أنه لما كان الدين يأمر المؤمنين به بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أي إقامة الحب ومحاربة الشر فإن ذلك بالطبع سوف يولد كراهية من قبل الذين يفعلون المنكر عن جهل أو عدم قناعة بخيرية الحب أو المعروف، فإن من الواجب في رأي "المرصفي" أن المسئول عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو العاقل الواعي العارف بالمقاصد والمألات ودونه لايصح له إقامة الحرب على المنكر أو تقويمه بالعنف أو إرهاب فاعليه ـــ أي أن محاربة المنكر فرض كفاية وليس فرض عين ـــ، والأفضل لسلامة الأمة معالجة ما يثبت أنه منكر بالحب أي بالمعروف إلا من إستكبر أو إعتدى وإستفحل شره وأصاب فساده كيان الأمة فحين إذاً وجب حربه دفاعاً عن الحب.
ويقول "كيف لا يتصور بين الأحزاب عداوة مع أن حزباً عظيماً مأموراً بأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويقاتل على ذلك ويشتد على ما يليه من مخالفيه، حتى يجدوا فيه غلظة بها يهاب ومن جهتها يخاف. أفلا يكون ذلك موجباً للإحتراس ودوام إستشعار العداوة؟!، فإن الضعيف المغلوب المقهور لا ريب لا يريد ذلك، وتشتد كراهته له نفعه أم ضره، فلو كان هنالك سبيل لعموم الفهم حتى يضعف معنى العداوة ويقوي معنى المحبة لضبط المزاحمة والمساعدة، لسعى في تعيينه ذوو البصائر وسلكته الكافة ولكن حيث كان من كمال الوجود تحقق جميع الأضداد وإستيفاء جميع الأقسام حتى صح للقائل أن يقول: (ليس في الإمكان أبدع مما كان) فإن كل شيء بالغ نهاية كما له وليس وراء النهاية ما يدخل في حد الإمكان، وجب لهذا المعنى أن يكون فصل قوم من قوم وتعيين ضابط لكل حزب يقوم به أهل الذكاء والفطنة الذين إستعملوها في معرفة الحكمة، ولزوم الضبط وهدى الناس إلى منافعهم وإرشادهم إلى مصالحهم وحملهم على ذلك شاءوا أو أبوا." 
وينتقل مفكرنا إلى تفسير الأيات التي أوجب فيها الله على عباده مقاتلة الكافرين والمفسدين والمعتدين، فبيّن أن الله تعالى لم يأمر بمقاتلة الأمنين من الأغيار أو المسالمين من الذين يختلفون في الملة والمعتقد بل حدد أن القتال مشروع في الإسلام ضد الذين أرادوا إخراج المسلمين من دينيهم، أو الذين إعتدوا على المسلمين لنهب ثرواتهم، وليس أدل على ذلك ـــ في رأيه ـــ من أن الله لم ينه المؤمنين بأن يحبوا أو يبروا المسالمين المخالفين في الدين بل أوجب عليهم حمياتهم ورعايتهم والوفاء في عهودهم فلا إكراه في الدين ولا نسخ لأيات المحبة بما ورد في وجوب القتال والزجر، أضف إلى ذلك ("وثيقة المدينة" وعهد النبي لمسيحي نجران).
وقد إختتم "المرصفي" حديثه عن سلامة الأمة بضرورة إشاعة التسامح والمحبة بين كل أفراد الأمة بمختلف طبقاتهم ومذاهبهم وميولهم الشخصية، مادامت تلك الأمور لا تتعارض مع صوالح جمهور الأمة، فسلامة المجموع تقتضي أن يكون الحب الذي يؤسس عليه دستور الأمة قوة تمكنه من محاربة الخارجين على ذلك الدستور، فالحب بلا حربٍ على الكراهية إستسلام وضعف وليس بر وشفقة، ويقول "إذ لا يأمر بالبر ويرغب فيه إلا من كان قادراً على العقوق، وكذلك لا يؤمر بالقسط إلا من تمكن من الجور فلابد مع المرحمة واللطف في المعاملة من تحصين أسباب القوة وإتمام العدة لما عساه أن يكون ويقدر حصوله من خلل كما سلف التنبيه عليه غير مرة".
ويتضح مما سبق أن حديث "حسين المرصفي" عن ثنائية الحب والكراهية لم يكن سوى تمهيد لبرنامجه التربوي الذي شغل أكثر من 45صفحة من كتابه "رسالة الكلم الثمان"، مؤكداً أن أهم درس يجب أن يضطلع به المربون في الأسرة والمدرسة والتثقيف والتوجيه هو درس الحب، لأنه الضامن الأقوى لترابط الأمة وولاء أفرادها للوطن، وتعاونهم على كل ما فيه مصلحة لكل من ينتمي إليه وينضوي تحت رايته فكمال الأمة من إكتمال هذه العاطفة ورسوخها في وجدنها.
ويقول "التربية بمقتضى نوعاً مطلق لتبليغ الإنسان حال كماله تدريجاً، ولا نريد تربية بدنه فإنها من التربية الحيوانية...... وإذا كان حد التربية ذلك فأركانها الإنسان المُربِي، والإنسان المُربَى وما به هو التربية، أما الكمال الذي هو غايتها فهو ليكون ملحوظاً للمُربِي ومطلوباً للمُربَى، ومعتبراً بما فيه التربية أن يرى الإنسان رؤية تامة، ويجده في طبعه وجداناً ثابتاً، أن أمته بمنزلة جسم هو بعض أعضائها، فكما أن لكل عضو من أعضاء الجسم وظيفة يؤديها بالطبع لا يرى بعض الأعضاء لعمله شرفاً ولا يرى الأخر في عمله خسة، كل سهل المضي فيما خلق لأجله."
وحسبنا نشير إلى مدى تأثر مفكرنا بالأخلاق الإسلامية، تلك التي عبر عنها القرآن وصحيح السنة وكتابات مفكري الإسلام ولاسيما حديث "الراغب الأصفهاني(ت1108م)" عن فضل المحبة في المجتمع، حيث محاربة الظلم والكراهية، والبُغض والحسد في كل صوره، وكذا حديث "الغزالي(ت1111م)" عن أثر المحبة في سلوك الفرد وتشكيل طباعه وإنعكاس ذلك مع الأغيار.
فللمحبة الفضل الأكبر في أمن المجتمع وسلامته، فمن الواجب أن يكون الناس كلهم متحابين متوادين وعلى كل إنسان أن يعود نفسه على محبة الناس والتودد إليهم والرأفة بهم، والمودة تكون بالنفس فإذا ضبط الإنسان نفسه الغاضبة وإنقاد لنفسه العاقلة صار الناس كلهم له أحباباً.
وفي ذلك يقول الراغب الأصفهاني "المحبة والعدل من أسباب نظام أمور الناس ولو تحاب الناس وتعاملوا بالمحبة لأستغنوا عن العدل."
فالمحبة في القلوب أفضل من المهابة، فالمهابة تنفر والمحبة تؤلف وقد قيل "المحبة أفضل من طاعة الرهبة".
والجدير بالملاحظة أيضاً تأثر مفكرنا بأخلاقيات المنفعة العامة عند الفيلسوف الإنجليزي "جيريمي بنتام(1748م-1832م)" ولاسيما في حديثه عن علاقة الفرد ـــ الذات ـــ بالأغيار فقد ذهب "بنتام" إلى أن المصلحة الذاتية تتطلب من صاحبها أن ينشد تحقيق مصلحة المجموع في غير أثره، وأن هذا هو خير طريق يسلكه إلى تحقيق مصلحته الشخصية.
وخليقٌ بنا أن نتسأل هل في مقدرونا محاربة كل أعداء الحب في أنفسنا أولاً ثم في أمتنا؟، وهل أن الأوان على ولي الأمر أن يضرب بيد من حديد على كل من يسيئون للأمة، محاولين الزج بها في أتون الهلاك، فبإسم الحب أدعوه لمحاربة الكذابين والمحرضين وينكل بالإنتهازيين والمتقاعسين عن النجدة وإغاثة اللهفان من ضعاف الأمة؟. 
وللحديث بقية.