الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

شوارع سعيد شحاتة المدهشة في الخبيئة

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
سعيد شحاتة من أولئك النفر الذين يتنفّسون الإبداع بحنكة ودربة، وقد هضم وتغذّي من الذوق الشعريّ اللهجيّ والزجليّ بطرقه وفنونه؛ فاستفحلت داخله الطاقة التعبيريّة، وهو من المشاركين المتفاعلين على المستوى الثقافيّ واللقاءات والندوات والمؤتمرات، وله ذلك الطموح الذي أسلفنا في كلامنا عنه في تحليلنا لإحدى قصائده؛ والتي تأتي نتيجة استجابته المباشرة للحدث، والعجيب هو قدرته على تمثيل الحدث من عدّة لقطاتٍ، واستثماره المدهش للإيقاع وجعله في خدمة دراما الحدث، وتجييش المفردات وحشدها لتتوالى أمام ناظريك وتجدل الصور مجدولاتٍ طيّبة المأخذ والتلقّي..
**
في قصيدة الشوارع نرى حدث الشوارع الخالية؛ في قولته الابتداء؛ والعابرة بنا لفضاءات الفكرة والقضيّة التي سيحوّلنا إليها الشاعر المحترف بطرقه الحياتيّة، واستطاعة لضم كلّ المشاهد من باطن الذاكرة.. يقول:
الشوارع فاضية جدًّا..
ونحن ندرك هذه الأيّام حجم الكارثة؛ والتي أتت على جموع البشر، فأسكنتهم الدور، وحبستهم بين الجدران، ونشطت التكهّنات، وتوالدت الأقاويل بالإرهاصات، وجاء الوباء القاتل الخفيّ لتصعد معه سحب نظريّة المؤامرة تارة، وأمور الحروب الاقتصاديّة وسيادة العالم، وقضايا الأبحاث والتجريب، وخفايا الملامسات العالميّة، وأطر المذهبيّة القاتلة، ومفاسد الرأسماليّة وفضائل الاشتراكيّة، وخواء الدول الكبرى صحّيًّا؛ كلّ هذا وجسد العالم الموبوء يضجّ بحنق المحبوسين بفعل حظر بعض الدول على مواطنيها خوف العدوى، وارتعاشة المصابين وخوفهم من التجنّب والموت المحقّق إذا استفحل الداء وضعفت المناعة.. إلخ..
وفي هذا كلّه كان على هذا الشاعر أن يلقط إطار الخلوّ غير المعتاد على العالم، والذي ضرب الاقتصادات الكبرى في مقتل، والذي لا تستطيع هضمه وأنت تطالع من على الشاشات صور أكثر المناطق ازدحامًا وهي خالية.. قاعًا صفصفًا!!..
ينشط الشاعر الحقيقيّ بكلّ العفويّة ويأتي بما كانت عليه الشوارع قبل ذلك الأمر؛ فالجميع يروح ويجيء، والأمور الحياتيّة في غاية الانسجام، ثمّ هذا الحادث وانطفاء صور الحياة والأحياء؛ يقول سعيد:
العيال رايحه المحلات والقلوب حشو المرايل
القمر بيشبّ للبيّاع وطايل
هات بنصّ جنيه محبّه وربع أوطه
يا اللا يابن الإيه يا خايب جاتكوا شوطه
احدف الفوطه اللي عندك للمنادي
عايزه باتنين ورد وشويّة زبادي
والنهار ع الناصيه عادي وماشي هادي
نص وادي النيل بيضحك في المعادي
حادي بادي الورد شايل شنطه فضّه
بياعين الفول بيملوا القِدره رَدّه
طشّة الزيت عامله خضّه لكلّ واحد مدّ إيده
الولي بيختار من المجاذيب مريده
الشيطان صابح بينفخ سم ف قلوب الأفاعي
وابن خالته المحترم عامل رفاعي
والشوارع صاحيه من غير أيّ داعي تبيع مناهده
..
تراودك وأنت تقرأ لسعيد شحاتة ذلك الزخم الذي يحدث وأنت تطالع الحياة بملمّاتها، وقدرة البيانيّ في الإيقاعيّ، وتلك الصورة المدهشة المبتكرة الغضّة:
الشيطان صابح بينفخ سم ف قلوب الأفاعي
وإن كان اللفظ الشجريّ أصاليًّا: "سمّ" قد أصبح مدلولًا هشًّا مع لفظ: "الأفاعي".. ولكن وتريّة الطريقة التالية؛ تجعل الأمر المبهم في ابن خالته المحترم واضحًا، وإن كانت الصورة تريد تضفيرًا أكثر في تلك الجزئيّة، وإن كنت أوكل ذلك لتدفّق الصور والمعاني وجيشان ذلك في نفس سعيد، وأرجو - كما قلت سابقًا- للشاعر عدم التسرّع فذلك يوهن عزيمة الصور التعبيريّة؛ فتأتي مشوّهة "كتحصيل حاصل"!..
ولنقف هنيهة عند تلك الجزئيّة؛ لنمعن النظر حول إمكانيًة الشاعر الدراميّة، وحسّ الأوبريت الطاغي في ملحمة الأحداث؛ يقول سعيد:
القمر بيشبّ للبيّاع وطايل
هات بنصّ جنيه محبّه وربع أوطه
يا اللا يابن الإيه يا خايب جاتكوا شوطه
..
يقول القائل: ما علاقة المحبّة بربع "الأوطة/القوطة/ الطماطم"؟!.، ونرجع لحسّ الشاعر المتفاعل الساخر، والمفارقة بين جنون الأسعار، والعلاقة الطرديّة بين الجنيه كعملة الدول الرسميّة والمحبّة، وكأنّ المحبّة مستكنّة في معيار تقييم القلوب، ولن تجد من البائع استجابة، ولذلك سيرتدّ الجواب بالطرد واللعائن!.. وإن كان اللفظ الشجري:ّ "القمر" قد أتى مبهمًا كسرعة سعيد في السرد الإيقاعيّ والتصويريّ، ولكن تجد أنّ التأويل يأتي في صالحها على عدّة أوجه؛ فالقمر المنير قد يكون هو على دلالته الخاصّة، أو استعارة للغد المتطلّع في صورة إنسانٍ يعي، أو هو القلب الآدميّ الذي يحتاج المحبّة، ويقدر أن يزنها ويستأهل أن يستنير ويكون في بهاء القمر الذي يلقي بضيائه الغامر دون مقابل!..
يقول سعيد:
الشوارع فاضيه جدًّا
والغريب في حماها وبيوتها ف حماه
الطريق فاتح جيوبه
........ والقلوب بتهلّ من كل اتجاه
اللي ماشي لوحده ساحب جيش وراه
والشوارع خايفه من غير طوق نجاه
بياعين الحبّ كارهين الرزاله
والبياعه عاديّه لبتوع النداله
واللي كاتب شعر مش محتاج قواله
واللي شايل قلب بيحطّه ف حواله
والشوارع قاعه فاتحه ف قلب صاله
فيها كل الناس بتحجل بالتكاله على الحياه
................ الشوارع فاضيه والعالم إله
آااااه
..
تلك الشوارع الخالية؛ بلفظها الشجريّ: "فاضية" جعلت من العالم إلهًا.. وإتباع ذلك بتلك الآه الطويلة الممتدّة يشي بعذابات الوقت الراهن وملابساته، ولن نكسر عنق الدلالة لتوكيد فكرتنا وطرق تحليلنا للقصيد، وإن كان الوقت الراهن واضحًا لا يحتاج تأويلًا، وسعيد من أولئك البارزين في سرعة التأثّر للحدث الراهن، وقدرته على الصياغة بكثافة وسرعة بارقة، تجعل منه أنموذجًا أصاليًّا نشطًا في التجريب والتميّز المحلّيّ فالعالميّ، ولكن أن يصبر على مادّته، ويمنح النصّ رؤيا خاصّة، ويضفر صوره بملاءمة التصوير والتضفير، وهو على ذلك قادر. ويؤكّد قولنا أنّ الشاعر يستطرد دائمًا ببراعة في الانتقال بين المشاهد المزدحمة، ويعشق تضفير عدّة صور متوالية متلاحقة مسلسلة لتبيان وجاهة فكرته، وأيضًا لتأكيد شعوره لدى المتلقّي، هو سريع وبطئ في الآن ذاته؛ بمعنى: أنّه يريد الانتهاء من نصّه مهما كلّفه ذلك من احتشاد العديد من الصور الملائمة وغير الملائمة ممّا يهدم كفاءة الصور التعبيريّة، ويهدم أسس الابتكاريّة، ويكون النصّ مترهّلًا مستهلكًا بعد حين، وبعد انتهاء الحدث أو المناسبة، وبطئ في تنشيط خاصيّة التميّز، وبراعة الانتقال الصوريّ والإيقاعيّ وحشد الألفاظ المتجانسة وخلافه لا تخفي أيضًا بعض المعاني المبتورة، وقد يمتدّ اعتساف الفكرة مع بعض الصور، وقد يأتي تيّار التداعي لحشد الأمثال والأقوال السالفة المحفوظة والأكلشيهات الشعريّة، ولكن فارقيّة الامتداد التعبيريّة تنتج تفاعل وثقة القارئ المتلقّي في سعيد؛ ممّا يجعلنا نطالبه بوجوب مراجعة نصوصه، وحتّى يستطيع التنافسيّة العالميّة..
وتستطيع مع سعيد أن تبتسم، ويجعلك بعد غبار الصور المتلاحقة كنثار النقع تجده يقف، وبمهارة ينتقل إيقاعيًّا وأمور الرويّ والقافية لتتنفّس وتستطيع رؤية الكثير ممّا يريدك سعيد أن تراه وتعجب به؛ فكأنّه "لسرعته" يريد أن يشهدك على ما قال؛ فيكمل قائلًا:
في الشوارع معجباني الحاره مجرم
للشوارع حكمه تخلق معجباني
رنّة الأسماء بتنفد من وداني الصبح بتخلّيني أغنّي
........................ وابتسم لبيوت حارتنا
وإنّي أجد تلك الصورة قادرة على التميّز، وبمناسبة الشوارع فلفظة "المعجباني" خاصّة بالشعب المصريّ، وخاصّة بالشارع البسيط به، وإذا كان كلفظٍ شجريٍّ له دلالة المفتخِر والمتكبّر و"شايف نفسه" والعديد من الأوصاف التي تجعل للاعتداد صورة كريهة، وتجعل الاستكانة منه مجرمًا، والاستطراد بعده في حكمة الشوارع تخلق "معجباني".. فهو الإطار الشعبيّ الذي يريد أن يكون هناك هذا الشخص، وله تلك المزايا؛ فكأنّ سعيد لا يلوم "المعجباني" المجرم، ولكن هو يلوم الشوارع التي خلقت منه مجرمًا؛ ويحيلنا تلقائيًّا لعنوان فيلم فريد شوقي: جعلوني مجرمًا..
وأيضًا "رنّة الأسماء" أتت حسنة الوقع في مكانها، وجعلها للشاعر يغنّي ويبتسم، فهو الأمر الذي يدعونا لمحبّة الشاعر الحقيقيّ الذي يحترف الغناء، ويبهر به سامعيه، ويغزل من مفلكه شعرًا يتوالد ويتواكد..
**
إنّ ابتسامة سعيد تحيله أن يبلع الكثير ممّا لم يقدر على ابتلاعه سابقًا، ويمنحنا أن نرى حكمة الدنيا التي نفتعل شدّة أعصابنا في أتون استعارها؛ وهي فانية لا تستأهل، وتمضي بنا الأيّام سيرة الريح التي تسفّ الرمال المهاجرة في الوديان، أن تتقبّل الأمر الذي قد يندثر بهجوم الفناء، أن تتآخى مع الآخرين فأمرٌ ليس منه بدّ، أن ندع التشاحن فلا وقت له ولا فائدة منه تُرجى، أن تولّد البسمة بعد الآه الطويلة، وأن ترى في الزحام والشقاء جنّةً ظليلةً ينضمّ الجميع تحت جناحيها؛ فتولمهم النجاة قطرات الشهد المصفّى؛ يقول سعيد:
وابلع الشتمه اللي نطّت من جارتنا
واكسر الطوبه اللي صابت نضارتنا
والعيون الخاينه لما اتصوّرتنا
والبنيّه اللي اشتهتنا وصوّرتنا بيوت موالي
..
وإن كانت الابتكاريّة تتمايز في: "واكسر الطوبة اللي صابت نضارتنا".. تلك المتوالية أمثولة جيّدة للتفاعل النصّيّ، وأعشوبة وأغرودة للتمايز المعنويّ الفارق، وأن تكسر مصدر الأذى فأنت على محبّة نفسك والآخرين تنطلق في مصالحة الذات مع الذوات!..
وأخيرًا يبلّغنا الشاعر ما يكرهه، ولا يتسامح فيه، وإن كان هو في حاله، فلن يترك التنبيه والنصح؛ يقول:
كاره الخلق الكئيبه التايهه في صفوف المعالي
كيكه عاليه وكيكه واطيه ورزّ وقت الأزمه غالي
قدرة الفوّال بطاطا
..................... وقِدرتي أيام خوالي
خالي قال لي كتير وانا كدّبت خالي
وابتديت اخدعني بالعشق المثالي
والشوارع فاضيه جدًّا
بس انا دايمًا في حالي
وهو بكلمة الأزمة يصف ما نعيش فيه من أزمة الوباء "كورونا/ كوفيد١٩".. ذلك الوباء المهلك الخفيّ، والذي تشقى منه البشريّة الآن، والشقاء الأكبر يقع على عاتق البسطاء من الفقراء الذين وقف حالهم، واستأسد الجشعون في استغلال الأزمة الطاحنة، فغلى الأرز، واختبأ أهل الثراء في أبراجهم الشامخة المحصّنة المعقّمة، يلوكون النصائح، ويرمون الأقاويل، ويغرّدون في سفه، آه ما أغبى الإنسان وقت المحن!!.. درجة التنامي الأصاليّة محلّيًّا، وأرجو التجويد فالخطّ البيانيّ يرتقي بكلّ دؤوبٍ صبورٍ.. ولله درّك من شاعر تقتنص الحدث الذي يغامر فيك وتغامر فيه لينشط الحلم ويتغنّى، ويبدع ويكسر الرتابة، وتعانق المفارقة بكلّ العفويّة، رغم سرعة الاطّراد وعدم الربط أحيانًا..