في حكاياتها الجديدة "وأنا أصدق ماريا"، قضت الكاتبة والناقدة السينمائية نرمين يُسر ما يقرب من خمس سنوات بعد إصدار روايتها الأولى "الروح الثامنة" تجمع الكثير من الأحلام والهواجس والأمنيات، لتخرج بعدها بثلاثين قصة قصيرة روتها على لسان بطلاتها اللواتي امتزجت لديهن آلام الحياة بمخاوف الأمسيات الطويلة التي تميزها الوحدة.
تقول نرمين في تقديمها للحكايات "لن تجد في هذه النصوص ما تستطيع تشبيهه بالقصص، لأنها ليست قصصًا مدبرة، ولكنها حكايات لا تُشبه رعب ستيفن كينج أو الدراما النفسية لتشاك بولانيك أو عبقرية مفاجآت هيتشكوك؛ ولكنها حكايات بشر عاديين لا يستطيعون الخروج من الجحيم، بل ويزداد تورطهم فيه مع الوقت، ربما تتعاطف معهم أو تتوقف عن القراءة لتُلقي بالأوراق عرض الحائط لاعنًا غبائهم"، وأنهت المقدمة باختصارٍ كافٍ للحالة التي صنعتها في عبارة واحدة "لكنك تقرأ عن المجحومين الذين صنعتهم من داخل عزلتي".
تتنوع القصص الصادرة مؤخرًا عن دار ميريت للنشر، والمزينة صفحاتها البالغة 125 من القطع العادي بغلاف أهدى لوحته الفنان وليد طاهر، ما بين سرد على لسان البطلة أو الاستعانة بالكاتبة في دور الراوي العليم، لكنها جميعًا تشترك في العزلة، سواء عن العالم المحيط أو الأفكار السائدة أو حتى عن شريك أو حبيب، تمزج في أغلبها ما بين الألفاظ العامية والسرد بالفصحى، لتكشف عن روح أخرى تائهة تركت حكاية "الروح الثامنة" ومضت في طريقها الخاص، لتُكمل بها ابنة الحضارة الفرعونية أسطورة الأرواح التسعة، حيث ساد اعتقاد قديم عند الفراعنة أن القطط هي صورة الآلة "أتوم رع" أو "آلهة الشمس"، وأن لهذه الآلهة ثمانية من الأبناء، ومع جمع أرواح الآلهة الثمانية مع روح آلهة الشمس، يُصبح المجموع تسعة؛ هكذا ساد الاعتقاد بأن للقطط تسعة أرواح، حتى أن البعض يُؤمن بأن الرقم 9 يجلب الحظ حتى اليوم، كالصين التي قضت فيها عدة سنوات وتركت في الكاتبة أثرًا واضحًا بدا في إصرارها على الاحتفاظ بقط قد تغني صحبته عن البشر كثيرًا.
تكشف الحكايات كذلك عن ولع الكاتبة بالقمر، والذي تنعكس صورته على الإنسان وفق حالته النفسية وأطوار القمر المُتعددة، فتارة يُضئ السماء ليكشف عن علاقة رائعة تُشبه الحكايات الأسطورية التي اهتمت بها خلال إقامتها الطويلة في بلاد جنوب شرق آسيا، وأخرى تحجب أكثره الغيوم التي تشترك مع الهواجس لتحكي لك عن علاقة غامضة مليئة بالأمنيات والمخاوف، بينما في ثالثة يغيب القمر فلا يبقى سوى الأسى والذكريات.
الخمر والدخان والمُعاناة والموسيقى مفردات أساسية في قصص نرمين القصيرة. حاولت هذه المرة بقدر الإمكان الابتعاد عن ثقافتها السينمائية -التي بدت واضحة في تقديمها للمجموعة- لتفسح المجال لأشياء أخرى، ربما نجحت في هذا على مستوى السرد الذي لم يأت بطريقة الكتابة السينمائية الواضحة في روايتها الأولى، لكن في النهاية يغلب الطبع التطبع. هكذا تراني أنا الآخر أصدق ماريا.
