الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

تقارير وتحقيقات

في ذكرى رحيل المفكر والإنسان.. شخصية فريدة تستوعب الطاقات الشبابية.. وعقله دائمًا يتنفس من الروح الجديدة للعصر

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تمر الذكرى السنوية الثالثة على رحيل المفكر المصري الكبير السيد يسين، ولا يزال صوته الرخيم الدافئ يتردد في أسماع كل من ارتبط بالأستاذ، داخل الأهرام وخارجها، من مصر أو من أرجاء الوطن العربي، كأن مشاعر الحزن على رحيل السيد يسين لا تريد أن تنزاح من القلوب.
في كل متغير يمر بالمجال العام، نستدعى أفكاره حتى بعد رحيله، وفى كل مرة يتعثر فيها الإنسان، ويحتاج إلى يد المساعدة يتذكر شهامة الرجل، وفى كل مرة يبحث الباحثون الشبان عن موطئ قدم، كانوا يجدون باب السيد يسين وقلبه مفتوحين، تأثيره في الأجيال كبير، وإسهامه في الثقافة العالمة لا ينكر.
لذلك فإن الكتابة عن السيد يسين بالنسبة لى لا تزال صعبة للغاية، وسأضع القارئ فيما يلى أمام مبررات هذه الصعوبة.


أولا: قراءة السيد يسين المفكر الاجتماعي
بحكم تخصصى في علم الاجتماع، كنت في المرحلة الجامعية بكلية آداب بنها - التابعة لجامعة الزقازيق آنذاك، أتردد على مكتبة الكلية، أتبع نصيحة أساتذتى بضرورة القراءة في كتب النظرية والمناهج قدر ما أستطيع. وكنت ألاحظ فيما أقرأه أنها كلها مصادر مترجمة عن نصوص أجنبية، تعد كتبًا مدرسية شكلًا ومضمونًا، سوى كتاب لفت نظرى بشدة وكان تأليف مشترك بين الأستاذ السيد يسين، والبروفيسور جمال زكي. كان الكتاب بحق يحلق خارج السرب، كيف ذلك؟
١. لم يُكْتَب ليكون مدرسيا، وإنما كتب للباحثين في الميدان، يرشدهم ويعينهم في وقت كانت البحوث الامبيريقية تتقدم ببطء شديد في مصر، نتيجة النظرة الاستاتيكية لعلم الاجتماع السائدة في تلك الفترة، والتى جعلت علم الاجتماع كطفل صغير يختبئ في عباءة الفلسفة والتربية.
٢. تميز الكتاب، الذى كتب من أكثر من ستة عقود، برؤية تقدمية للعلوم الاجتماعية، ويكاد يستوعب العلاقة بين علم النفس وعلم الاجتماع، بالطريقة التى بدأ يستوعبها المشتغلون في علم الاجتماع في الغرب بعد ذلك بعدة عقود، والتى ظهرت في أعمال علماء الاجتماع الكبار من أمثال بيير بورديو، وأنتونى جيدنز.
٣. يعكس الكتاب قدرة عالية على التأليف وليس التجميع فالقراءة نقدية، وكثيفة ومتعددة المدارس، ومطعمة بالتجربة البحثية المصرية. صوت المؤلفين قوى وواضح. كما يجمع الكتاب بين نظرية المنهج، والمهارة المنهجية، أى أنه يرتفع بالقارئ نحو فلسفة المنهج، ثم يأخذ بيده إلى مهارة التطبيق. وقلما وجدت كتب في المنهج بهذا الشكل المبدع.
٤. تصميم الكتاب وتقسيمه يعكس الجدية واحترام المتلقي، وعدم الاستعلاء، فكلما شعر المؤلف بغموض الفكرة لا يتوانى عن شرحها. وقد اعتمد المؤلفان على مصادر معرفية جديدة، فأكثر من ٦٠٪ من المراجع كانت في الفترة من ١٩٥٥-١٩٦٢. واعتمد المؤلفان على كتب أساسية، وبحوث دوريات عالمية، وتقارير مؤتمرات. كلها ترتبط بمناهج البحث الاجتماعي.
خلاصة القول: إن هذا العمل الذى شارك فيه السيد يسين في بداية حياته العلمية مع قامة كبيرة في العلم كالدكتور جمال زكى ظل موجهًا لمشروعه الفكرى في فترات لاحقة، ويبدو أثر هذا الرأسمال المنهجى في كل ما كتبه السيد يسين بعد ذلك، فالتفكير النقدي، وإثارة السؤال الصحيح، واقتراح الحلول الناجزة، كانت كلها عناصر الثراء في كل ما يكتبه السيد يسين، وبسبب ذلك ظل الراحل مستشارًا متطوعًا لكل الباحثين وصناع القرار في مصر والعالم العربي.


ثانيا: خصال المثقف الإنسان:
تعاملت مع المفكر الكبير، على ثلاثة مستويات، البداية كانت في الاستمتاع بقراءة مقالاته في الأهرام ومؤلفاته العديدة. ثم جاء اللقاء الشخصى الأول في مكتبه بالأهرام مطلع عام ٢٠٠٠، ثم توطدت العلاقة يوم أن تفضل برئاسة لجنة المناقشة لأطروحة الدكتوراة الخاصة في عام ٢٠٠٨، وفى نهاية عام ٢٠١٤، اختارنى للعمل معه في المركز العربى للبحوث والدراسات. خلال هذه المحطات الثلاث تبلورت لدى عدة قناعات حول هذه الشخصية الفريدة، أستطيع في السطور التالية أن أجملها في خصال أربعة:
١- القدرة على استيعاب الطاقات الشبابية وتشجيعها: يواجه المشتغلون بالبحث العلمى في مصر، صعوبات عديدة ويبذلون جهودًا مضنية من أجل تحقيق ذواتهم. وكان السيد يسين، يتعامل مع شباب الباحثين بعقل وقلب كبيرين، على معنى أنه يملك ملكات علمية تمكنه من تصنيف الإنتاج العلمى للشباب تصنيفًا دقيقًا، ولا يجد أى مشكلة في الإشادة بهذا الإنتاج في أى مناسبة وعلى أى مستوى. ولا يبخل عليهم بالتكليفات العلمية التى تضعهم على الطريق الصحيح.
٢- النقد البناء: من المعلوم أن السيد يسين ناقش عشرات الرسائل العلمية في كل تخصصات العلوم الاجتماعية، والذى يسعده الحظ، ويشهد عدد من هذه المناقشات، يندهش حين يتكلم الأستاذ عن موضوع الرسالة، وحين يناقش الباحث، بعقل نقدى عميق، وبقدرة عالية على إبراز الجوانب الإيجابية والسلبية في العمل، دون أن يفقد روح الود والأستاذية، فتتحول المناسبة إلى درس علمى كبير.
٣- التجدد المعرفى: سؤال السيد يسين حين يلقاك بعد غياب، ماذا قرأت في الفترة الماضية؟ ومهما كنت مستعدًا بالإجابة، فالمؤكد أن السيد يسين سيدهشك مرة أخرى، بإطلالة سريعة على أهم الكتب الجديدة في ميدان تخصصك، التى لم تسمع عنها إلا منه. إنه صنف من المفكرين دائم القراءة، تشعر أن عقله يزداد نضارة كل يوم بسبب بهذا التجدد المعرفى.
٤- استشراف التحولات: بعض المثقفين، بمرور الزمن وتقدم العمر، يحدث لهم تيبس في آلة التفكير، عكس السيد يسين، فهو يمتلك القدرة على إثارة السؤال الصحيح في الوقت المناسب، ويستبق التحولات الكبيرة ثم يعيشها، عقله دائمًا يتنفس من الروح الجديدة للعصر.


ثالثًا: في تجربتى الشخصية مع السيد يسين
كنت قد التقيت الأستاذ في مطلع عام ٢٠٠٠، بتوجيه من أستاذى الراحل الدكتور فتحى أبوالعينين، وكنت وقتها طالبًا في مرحلة الماجستير بجامعة عين شمس، كنت وقتها قد أعددت ملخصًا لكتاب حديث أحدث ضجة كبيرة (صورة الآخر: العربى ناظرًا ومنظورًا إليه، تحرير العالم الكبير الطاهر لبيل، من إصدارات مركز دراسات الوحدة العربية) وهو كتاب ضخم، يضم أعمال مؤتمر شارك فيه نخبة المثقفين العرب في ذلك الوقت منهم السيد يسين. المهم أن اللقاء كان بهدف عرض الملخص على الأستاذ أملًا في نشره، وجدت الأستاذ كريمًا حانيًا لا يشعرك بفروق المكانة، يسأل كثيرًا، وينصت كثيرًا، قبل أن أغادر مكتبه، وعدنى بأن يتابع كل ما أنجزه من خطوات علمية، وطلب منى وعدًا بأن أبقى متواصلًا.
مرت الأيام، وأنا أتواصل معه في المناسبات فقط، إلى أن ترأس لجنة المناقشة لأطروحة الدكتوراة الخاصة بى في عام ٢٠٠٨، ثم اختارنى باحثًا في المركز العربى للبحوث والدراسات عام ٢٠١٤، وقضيت بجواره ثلاث سنوات تعلمت فيها كل يوم خبرة جديدة، وخصال حميدة، ما كان لى أن أتعلمها من غيره، لم أر في حياتى مثقفًا مثل السيد يسين، يفرح بالمعنى الكامل للكلمة عندما يقرأ مقالًا جيدًا لأى إنسان يعرفه أو لا يعرفه، كأنه وقع على كنز ثمين، وبمجرد الانتهاء من المقال الذى أعجبه، كان يطلب من مدير مكتبه البحث عن وسيلة للاتصال بالكاتب، ويقوم بتهنئته بنفسه، فيرفع همة الكاتب إلى عنان السماء، ويحفزه بهذه الطاقة الإيجابية لكى يكتب ويفكر على نحو أفضل. هكذا كان السيد يسين المفكر الموسوعي، المثقف رفيع المستوى، الإنسان صاحب القيم النبيلة.