الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

حلقات أسبوعية يكتبها مصطفى بيومي.. عباقرة الظل.. عدلي كاسب الشرير المبدع

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
عنيف شرس متطرف في وحشيته كأنه الشيطان، رقيق وديع مسرف في طيبته مثل طفل برىء، عاقل حكيم يُضرب باتزانه المثل، أرعن مندفع كالطوفان العارم، أرستقراطى متعجرف يجزم من يراه أنه سليل باشوات، شعبى قح توحى هيئته بأنه لم يغادر الحارة منذ ميلاده.
وجوه متعددة متنافرة متناقضة، وداخل كل وجه تجليات متباينة، فالشر والخير عنده درجات. لا يملك المشاهد المسحور بأدائه الواثق المقنع السلس، التلقائى العفوى البسيط، إلا أن يقر بعبقرية الفنان الأصيل ذى الأسلوب الاحترافى رفيع المستوى، لكنه لم ينل من الشهرة وذيوع الصيت ما يعادل حجم موهبته وعطائه الثرى.



عدلى كاسب علامة بارزة مضيئة في تاريخ السينما المصرية، فضلا عن إبداعه المتميز اللافت في المسرح والتليفزيون، وواحد من أبناء الجيل الجاد المثقف الملتزم، المحب للفن والمؤمن برسالته. العمل عنده متعة وهدف، والتحقق المشبع جائزة كبرى يقنع بها ويفرح. لا شك أنه في أعماقهم على يقين من انتصار التاريخ له، وإن تعثر إنصافه وتأخر.
الشر النمطى ليس واردا عند عدلى، فلكل شخصية توصف بالشر مفاتيحها ودوافعها وسماتها الخاصة التى ينبغى أن توضع في الاعتبار. لا يعتمد الفنان المتمكن على ضخامة الجسد وما توحى به من قدرة على البطش وإلحاق الأذى. الشر تكوين نفسى وليس جسديا، ومن هنا تظهر الفوارق الشاسعة بين الأب السكير غير السوى في «المراهقات»، ١٩٦٠، والأخ الجشع الذى يمتهن الجزارة ويدمن العنف في «السفيرة عزيزة»، ١٩٦١، والتاجر الثرى العاشق المتعالى طبقيا في «زقاق المدق»، ١٩٦٣، وهؤلاء جميعا يختلفون جذريا عن أبى جهل في «هجرة الرسول» ١٩٦٤.
شاكر، في «المراهقات»، شخصية معتلة الأعصاب، سكير نهم للطعام والجنس، عصبى متوتر دائما. يسىء معاملة ابنه الوحيد أحمد «جلال عيسى»، على الرغم من نجاحه وتفوقه، ويبدو لطيفا حانيا مع ابنة زوجه صفية «زيزى مصطفى». يهيج ويحتد لأتفه الأسباب، أو بلا أسباب، ويحشد عدلى كاسب كل أدواته التعبيرية ليتجسد وحشا آدميا، يشتم ويضرب ويمزق الكتب ويطرد الابن في قسوة من يتلذذ بالسلوك السادى. مشاهدو الفيلم يجمعون بين كراهيته وسيطرة الشعور بالعجز عن فهمه، فهو مريض بالشراسة غير المبررة.
الأمر مختلف عند الجزار عباس في «السفيرة عزيزة»، ذلك أن دوافع الشر عنده تتمثل في الجشع المادى والرغبة في الاستحواذ على ميراث شقيقته، فضلا عن استعداد فطرى للعنف، ما يقوده إلى السجن مدانا بانتهاك التسعيرة ومقاومة السلطات. طريقة عدلى في الإمساك بالساطور والتلويح به دليل عملى غير مباشر على عدوانيته الأصيلة، وصوته الخشن الجاف علامة شراسته، لكنه «ابن بلد» تحيط به شلة من الأصدقاء الطيبين الذين لا يمكن تصنيفهم في دائرة الشر. هزيمته أمام زوج أخته «شكرى سرحان»، قرب نهاية الفيلم، لا تبدو منطقية مقنعة بمقاييس القوة، لكن أبطال السينما المصرية ينتصرون عادة لأسباب تجارية!


سليم علوان في «زقاق المدق» شرير «معتدل» مقارنة بسابقيه، ذلك أن عشقه لفاتنة الزقاق حميدة «شادية»، يدفعه إلى الإقدام على خطبتها دون الاهتمام بخطيبها الفقير عباس «صلاح قابيل». عشقه للفتاة حسى جنسى خالص، وكم يبدو عدلى بارعا متمكنا في الإعلان عن امتعاضه عند مقارنته بالغريم الشاب الذى لا يرقى إلى مكانته الاجتماعية: «الواد الحلاق الشحات ده!».
الانتصار ميسور على عباس لغياب الندية والتكافؤ، لكن المرض يطيح بالتاجر الثرى فلا يبقى من شره إلا التوتر والغضب. إنه شر اجتماعي طبقى ذو دوافع عاطفية مفهومة مبررة في الإطار الإنسانى، أما عن أبى جهل في «هجرة الرسول»؛ فإنه يمثل الشر المطلق، ما يستدعى التهيؤ لتجسيد الشخصية عبر منظور أحادى متحامل، يجمع بين الظاهر الشكلى القبيح والباطن الذى يستوطنه الغل. عندما يتعلق الأمر بالموروث الدينى وقداسته، تتوارى المعايير الفنية وتغيب منهجية الأداء المتوازن.
بالتكوين الجسدى العملاق نفسه، ومن خلال الملامح التى تتجهم في غلظة موحية بالشر، ينتقل عدلى كاسب لتقديم شخصيات طيبة خيرة، تقترب أحيانا من الوقوف على عتبات الغفلة والسذاجة.
سالم سلامة سليمان، رئيس تحرير جريدة «النور» في «سر طاقية الإخفاء»، ١٩٥٩، رجل طيب ذو توجه كوميدى قوامه اللحية الغرائبية والانفعال العصبى، فضلا عن التحول السريع من الغضب إلى الرضا ومن القسوة الشكلية غير الأصيلة إلى المبالغة في الرقة. يسهل تصديقه لكل ما يُقال له، ويكرر كالأطفال كلمة «البلالم»، متوهما أنها أداة الاختفاء السحرية. ما هكذا يكون رؤساء التحرير بطبيعة الحال، لكن الفيلم في مجمله خارج الأطر التقليدية، والموهبة الكوميدية كامنة في أعماق الشرير المبدع.
في «لقاء في الغروب»، ١٩٦٠، يقدم عدلى واحدا من أهم شخصياته، ينفرد بالدور الرئيس في النصف الأول من أحداث الفيلم، ويتألق بعفويته وتلقائيته في تجسيد شخصية عزت، الزوج والأب الثرى المرح الأقرب في بساطته الخلابة إلى عالم الأطفال أنقياء القلوب. نهم في الطعام، برىء صريح في الكشف عن مشاعره ورغباته، ولا يتقن صنعة الكلام المنمق الذى تتوق إليه الزوجة آمال، مريم فخر الدين. يحبها على طريقته مثلما يحب ابنه الوحيد ممدوح، ومن يتأمل ملامح عدلى المسكونة بالصفاء والطيبة، لن يصدق بسهولة أنه شاكر وعباس وسليم و«أبو جهل». كيف يتحكم الممثل القدير في خريطة وجهه على هذا النحو، متحولا من الشر المخيف إلى الطيبة المتطرفة المشتبكة مع السذاجة؟. هنا تكمن الموهبة التى تبرهن على أن مدمنى النمطية والتكرار الممل ليسوا موهوبين، بل إنهم ليسوا ممثلين.
الأب الطيب البشوش في «عائلة زيزى»، ١٩٦٣، و«نغم في حياتى»، ١٩٧٥، امتداد على نحو ما لشخصية عزت، أما مصطفى علوان والد العريس جلال في «أم العروسة»، ١٩٦٣، فشخصية ذات نسيج مختلف في مسيرة عدلى السينمائية. إنه صديق حميم جدير بالحب عند مشاهدى الفيلم، وفى أسلوب أدائه «نداهة» تستقطب العيون والقلوب معا. يفجر الضحكات الصافية بطريقته في الكلام والتهام الفاكهة، ويتناسى الجميع أنه زوج باهت الشخصية. ينصب التركيز كله على المرح الذى لا تشوبه شائبة من الافتعال والابتذال. غاية ما يُقال عنه إنه رجل طيب، وما أجمل أن تكون رجلا طيبا.


بين البراعة في أدوار الشر بتجلياته المختلفة، والتمكن في تجسيد الطيبة والبراءة، يتحرك عدلى أيضا في الساحة الفسيحة التى تفصل بين العالمين، ويكشف عن قدرة جديرة بالإعجاب في معايشة شخصيات يصعب تصنيفها إلا في دائرة الانتماء الإنسانى العام.
وكيل النيابة في «حب وإعدام»، ١٩٥٦، قوى وقور متزن كما يليق بوظيفته، والكهل الذى ينخرط في شلة المترددين على القهوة في «الكرنك»، ١٩٧٥، جاد عاقل مسكون بمزيج من الخوف والسخرية، وفى «صغيرة على الحب»، ١٩٦٦، يبدع عدلى في تقديم شخصية شاكر، زوج شقيقة سعاد حسنى. يتسم بالعصبية والاندفاع بفعل المفارقات وسوء الفهم، وعندما يزول اللبس يظهر الوجه الآخر الملتزم بالتقاليد والأعراف.
في «مدرس خصوصى»، ١٩٦٥، يتألق عدلى في تجسيد شخصية الزوج العنيد والأب الصارم، ولا متسع هنا للحديث عن ثنائية الخير والشر، ذلك أن الأغلب الأعم من ردود أفعاله منطقية مبررة قابلة للفهم والاستيعاب.
ضابط الشرطة مساعد الحكمدار في «حياة أو موت»، ١٩٥٤، وضابط الجيش الكبير الذى يتولى منصبا قياديا بالكلية الحربية في «رد قلبى»، ١٩٥٧، وأيضا ضابط الجيش المتعاطف مع ابنتى شقيقه في «نادية»، ١٩٦٩؛ نماذج للأدوار الصغيرة محدودة المشاهد والتأثير، يؤديها الفنان المحترف الملتزم في كفاءة وإخلاص، وما أكثر هذه الأدوار.
التوقف ضرورى أمام دورين صغيرين مهمين يقدمهما عدلى كاسب في «الزوجة العذراء»، ١٩٥٨، و«اللص والكلاب»، ١٩٦٢. محروس سايس الاصطبل الفحل القوى، الذى يكشف بأسلوب فنى غير مباشر عن أزمة العاجز مجدى بك «أحمد مظهر»، والمخبر حسب الله بكل ما في إيقاعه الواثق المحسوب من تعبير عن سطوة السلطة التى يقبع في قاعها، ويستمد من مكانته المتواضعة نفوذا يتوافق مع البيئة الشعبية التى يتحرك الجميع في إطار قواعدها الخاصة.
ربع قرن من الإبداع السينمائى، يبدأ في السنوات الأولى من خمسينيات القرن العشرين، وينتهى برحيله قرب نهاية السبعينيات. عشرات الأفلام والشخصيات، وتنوع في الوجوه يثير الدهشة والإعجاب. حصيلة العطاء المحترم تضمن للممثل العملاق مكانة تزداد توهجا مع كرور السنين، وهل يصح في النهاية إلا الصحيح؟

ربع قرن من الإبداع السينمائى، يبدأ في السنوات الأولى من خمسينيات القرن العشرين، وينتهى برحيله قرب نهاية السبعينيات. عشرات الأفلام والشخصيات، وتنوع في الوجوه يثير الدهشة والإعجاب. حصيلة العطاء المحترم تضمن للممثل العملاق مكانة تزداد توهجا مع كرور السنين، وهل يصح في النهاية إلا الصحيح؟