الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

بروفايل

الطيب صالح .. رحلة الفن والفكر

الطيب صالح
الطيب صالح
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
قبل أحد عشر عامًا رحل عن عالمنا المثقف والروائي السوداني الكبير الطيب صالح، الذي ارتحل بين عالمي الشرق والغرب ليترك لنا الكثير من الحكايات عن الفوارق بين عالم الجنوب الأسمر الدافئ وعالم الشمال البارد الذي لا يعترف سوى بمصالحه وحدها. رحل الطيب صالح بينما لا زال أثره باقيًا، وكتابته الأدبية وأعماله الروائية علامات بارزة في مسيرة الرواية العربية منذ بدأ الطريق بروايته الأشهر عالميًا "موسم الهجرة إلى الشمال"، وتبعها بأعمال أخرى تركت صدى لا يزال يتردد، منها "عرس الزين"، و"دومة ود حامد"، وانتهاءً بكتابه "منسي إنسان على طريقته".
ولد الطيب صالح في قرية كرمكول شمال السودان عام 1929، وحصل على البكالوريوس في العلوم من جامعة الخرطوم، ثم تخصص في الشئون الدولية السياسية من إنجلترا، وعاش حياة مهنية حافلة، فتنقل بين عدة مواقع مهنية، بدأها بخبرة قصيرة في مجال التعليم عندما تولى إدارة مدرسة، ثم عمل لسنوات طويلة في القسم العربي لهيئة الإذاعة البريطانية، والتي ترقّى فيها حتى وصل إلى منصب مدير قسم الدراما، وبعد استقالته في أعقاب العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 عاد إلى السودان ليعمل لفترة في الإذاعة السودانية، لكنه سرعان ما هاجر إلى قطر وعمل في وزارة إعلامها وكيلًا ومشرفًا على أجهزتها، وانتقل بعدها للعمل بعد ذلك مديرًا إقليميًا بمنظمة اليونيسكو في باريس، وعمل ممثلًا لها في الخليج العربي. 
حالة الترحال الدائمة، والتنقل بين أطراف الأرض، أكسبت الطيب صالح خبرة واسعة بأحوال الحياة والعالم، وجعلته أكثر إداركًا لأحوال أمته وقضاياها، وهو ما وظفه في كتاباته وأعماله الروائية، فكان رغم تنقلاته بين العديد من دول العالم يترك جزءًا كبيرًا من روحه في وطنه الأم؛ وكان واحدًا ممن شرّحوا المجتمع السوداني بدقة شديدة، فظلت كلماته تصلح لأكثر من عقد من الزمان، ففي واحد من مقالاته يقول: "مِن أين جاء هؤلاء النّاس ؟ أما أرضعتهم الأمّهات والعمّات والخالات ؟ أما أصغوا للرياح تهبُّ من الشمال والجنوب ؟ أما رأوا بروق الصعيد تشيل وتحط ؟ أما شافوا القمح ينمو في الحقول وسبائط التمر مثقلة فوق هامات النخيل؟ أما سمعوا مدائح حاج الماحي وود سعد، وأغاني سرور وخليل فرح وحسن عطية والكابلي أحمد المصطفى ؟ أما قرأوا شعر العباس والمجذوب ؟ أما سمعوا الأصوات القديمة وأحسُّوا الأشواق القديمة، ألا يحبّون الوطن كما نحبّه ؟ إذًا لماذا يحبّونه وكأنّهم يكرهونه ويعملون على إعماره وكأنّهم مسخّرون لخرابه؟
أجلس هنا بين قوم أحرار في بلد حرٍّ، أحسّ البرد في عظامي واليوم ليس باردًا. أنتمي إلى أمّة مقهورة ودولة تافهة. أنظر إليهم يكرِّمون رجالهم ونساءهم وهم أحياء، ولو كان أمثال هؤلاء عندنا لقتلوهم أو سجنوهم أو شرّدوهم في الآفاق".
جاءت كتابات الطيب صالح لتتطرق بصورة عامة إلى السياسة، وإلى مواضيع أخرى متعلقة بالاستعمار، والمجتمع العربي والعلاقة بينه وبين الغرب، وفي أعقاب أعوام طويلة من الحياة في مركز الإمبراطورية التي غابت عنها الشمس، تطرّقت كتابته إلى الاختلافات بين الحضارتين الغربية والشرقية؛ ووصف الناقد جمال العشري موهبته الإبداعية بقوله: "لعل أهم ما يثير الانتباه في فن هذا الكاتب هو أنه فنانٌ مفكّر أو هو كاتبٌ يجمع بين الفكر والفن، بحيث يصدر في أدبه عن خلفيّة فكريّة عميقة، ويشكّل بهذا الأدب موقفًا حضاريًا أكثر عمقًا وأبعد مدى، فالقضيّة الفكرية المُلحّة التي تؤرق وجدان هذا الكاتب هي قضية البحث عن الشخصيّة الإفريقيّة الأصيلة وسط طوفانٍ جارف من أضواء الحضارة الغربيّة، هل يمكن لهذه الشخصيّة أن تؤكد وجودها بالارتداد إلى ماضيها؟ ومحاولة بعث ما في هذا الماضي من فن ودين، أم أن هذه الشخصيّة لا يمكنها أن تؤكد وجودها إلا من خلال ارتباطها بالحضارة الغربية؟".
مع هذا تبقى روايته "موسم الهجرة إلى الشمال" علامة روائية متفردة في الكتابة العربية في النصف الثاني من القرن العشرين، والتي لاقت منذ طبعتها الأولى احتفاء كبير بين الأوساط الثقافية. احتلت الرواية القصيرة نوعًا مكانتها باعتبارها من أهم الأعمال السردية العربية، والتي تكشف علاقة المثقف العربي بأوروبا بشكل خاص، حيث الإنسان المهاجر إلى إحدى الدول الشقراء قادمًا من مستعمرة سابقة لتلك الدولة، وهي بمثابة هجاء مرير للمشروع الأوروبي الذي ساد العالم منذ نهاية القرن الثامن عشر وحتى النصف الأول من القرن العشرين، ولكن بقيت آثاره تحكم العلاقة بين العالمين ربما حتى يومنا هذا، وقد كان توقيت كتابتها في 1966 بالغًا في الأهمية، حيث كان السودان لا يزال يتعافى من الاستعمار البريطاني، وكان الكاتب الراحل رجاء النقاش قد كتب عنها في مجلة المصور يقول: "لقد استخدم الطيب صالح في روايته جميع الأساليب المناسبة في مزيج فني سليم خصب وأصيل. ولذلك جاءت روايته في النهاية رواية عصرية من ناحية، ولكنها من ناحية ثانية تفوح بالأصالة والارتباط بالتراث الروائي العربي والعالمي معًا. إنها بعبارات أخرى "رواية عربية متطورة" تمثل خطوة جديدة في أدبنا الروائي، بل تفتح في تاريخ الرواية العربية صفحة جديدة مشرقة… إنها علامة من علامات الطريق في أدبنا العربي المعاصر".