الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

التعصب وتجديد الخطاب الديني

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
​تزايد الجدال خلال الفترة الماضية عن تجديد الخطاب الديني، ومبرراته، والآثار المترتبة عليه ما بين مؤيد ومعارض، متفهم لطبيعة هذا المشروع التنويري وغير متفهم، مدرك لأهميته وغير مدرك بعد أن قدم الدكتور محمد الخشت رؤيته الفلسفية لتجديد الخطاب الديني والدخول لعصر ديني جديد في المؤتمر العالمي للأزهر الشريف الذي عقد مؤخرا بعنوان: التجديد في الفكر الإسلامي. ولم يكن الدكتور الخشت هو الوحيد الذي طالب بتجديد الخطاب الديني، فقد كان ذلك مطلبا مجتمعيا منذ فترة طويلة، ونال اهتمام بعض علماء العلوم الإنسانية والاجتماعية، تناول كل منهم الموضوع من زاوية معينة، ولكن ربما تولد شعور لدى هؤلاء العلماء أن الأمور لا تتعدى حدود المطالبة بالتجديد وتبرير أهميته، ولم يحدث أي تطور على أرض الواقع يدركه المجتمع. وجاءت محاضرة الدكتور الخشت ومناظرته مع شيخ الأزهر لتحرك المياه الراكدة، وتعطي انطباعا للجميع بأن تجديد الخطاب الديني وتطوير أفكار المسلمين أصبح واقعا تفرضه الظروف المجتمعية الملحة لمواجهة الأفكار التعصبية والمتطرفة والأعمال الإرهابية التي تريد النيل من الوطن.
​وبصرف النظر عن التناول الإعلامي للموضوع، ومعالجته على أنه صراع أو صدام بين الدكتور الخشت وشيخ الأزهر ما كان يجب أن يحدث، أو أن أحد الطرفين انتصر على الآخر طبقا للتوجهات المغرضة والمعالجة غير الأمينة لأصحاب هذه التصورات، فإن هذا المشروع سيظل شائكا وباعثا على النقاش والجدال العلمي والمجتمعي، وأعتقد مثل الكثيرين أن ما حدث ظاهرة صحية أعادت الموضوع للنور، وبرهنت على إلحاح الارتقاء به في ظل التقدير والاحترام المتبادل بين طرفي النقاش والمناظرة. فكلاهما له مكانته المجتمعية التي يدركها الجميع، ولم يكن بينهما يوما ما أي خلاف أو صراع.
وربما تكون البداية العملية لتجديد الخطاب الديني هي معرفة المعوقات التي تحول دون نجاح هذا المشروع. والواقع أن هناك معوقات عديدة وصعوبات شديدة: شخصية واجتماعية وتربوية ومؤسسية عديدة تحتاج إلى أن يفرد لها عدة مقالات. ولكن أهمها على الإطلاق هو التعصب الذي يعد لب هذه المعوقات وجوهرها. ومع ذلك لا ينال حظه من الاهتمام العلمي والإعلامي. فكل الحديث عن التطرف والعنف والإرهاب، ونادرا ما يشمل الحديث التعصب، رغم أنه هو السبب الأساسي للتطرف، وما يترتب عليه من كل أشكال العنف والعدوان ووصولا إلى الإرهاب البغيض بكل أشكاله.
لذلك تم التركيز هنا على ملامح التعصب الأساسية عموما والتعصب الديني خصوصا للتعرف عليها، ومن ثم إدراك آثارها حتى نحسن التعامل معها. الملمح الأول أنه حكم مسبق ومتسرع لا أساس له من الصحة، ويحدث بدون وجود الدلائل الموضوعية على صحته. فالشخص المتعصب لديه قناعة تامة بأن آراءه ومعتقداته وأفكاره هي الصحيحة وليس سواها، ويرفض رفضا قاطعا الآراء الأخرى التي تعارضها أو تختلف معها، وليس لديه أدنى استعداد لقبولها حتى لو قدمت له الأدلة العقلية على صحتها. فهذا الحكم يكون سابقا على توفر هذه الأدلة العقلية.
والملمح الثاني هو التحيز ضد الآخر، وما يرتبط به من مشاعر سلبية تظهر في عدم تقبله، ورفض كل ما يقول، بل رفض سماع رأيه من حيث المبدأ. لذلك فالمحاجة والحوار العقلي مع الشخص المتعصب لا يثمر معه ولا يسفر عن أي نتائج غير احتقار الرأي المخالف وتسفيهه والتقليل من شأنه هو وصاحبه.
والملمح الثالث للتعصب هو التوجه السلوكي العدائي الذي يتسق مع هذا الحكم المسبق والمتسرع والمشاعر الوجدانية السلبية نحو الطرف الذي يوجه إليه التعصب. وظهر ذلك في أسلوب التعبير العنيف عن الآراء، والإساءات التي صدرت من أناس يفترض أنهم غيورون على ديننا ويدافعون عنه. فقد سبوا الرجل وأساءوا له على مواقع التواصل الاجتماعي بصورة تتنافى تماما مع أخلاق الإسلام وقيمه السمحة. وللأسف كثير منهم كانوا من المنتسبين للأزهر الشريف.
والملمح الرابع للتعصب أنه يؤدي وظيفة غير عقلانية (غير مبررة) لصاحبه. فهو لا يعي الرسالة التي تقدم ولا يفهم معناها، ولا يدرك واقع تعصبه. فهو يتحيز لأفكار معينة يؤمن بها، وفي الغالب لا يوجد لديه ما يبررها، بل لا يستطيع الدفاع عنها إلا بالانفعال المسيء. فهو من أصحاب المنهج النقلي الذي لا يمكنه إعمال العقل، ويفتقد القدرة على التفكير النقدي والحوار الهادئ البناء.
والأهم من ذلك هو أن الأشخاص المتعصبين يتجهون مباشرة لتصنيف أصحاب الآراء المخالفة لهم: من ليس معنا فهو ضدنا. ومن لا يناصرنا فهو عدونا. فبمجرد أن يقول الشخص رأيه يتم تصنيفه فورا في فئتين لا ثالث لهما، فهو إما متدينا محافظا على دينه، وإما علمانيا متحررا يريد هدم الدين والإساءة له. فقد اتهم البعض الدكتور الخشت بالعلمانية والإساءة للدين بسبب فكره التجديدي للدخول لعصر ديني جديد وللخطاب الديني، دون أن يعرفوا حقيقة الرجل، ولا طبيعة فلسفته التي تؤمن إيمانا راسخا بالمقدس وهو القرأن الكريم وصحيح السنة النبوية، وتميز تمييزا قاطعا بينه وبين الجهود البشرية التي تعاملت معه، والتي ليست بعيدة عن المراجعة والنقاش. ويرتبط بهذا التصنيف خصلة التعميم، فالتصنيف يكون للأفراد، بينما يكون التعميم للأفكار، وكلاهما على علاقة وثيقة ببعضهما البعض. ويعني وضع كل الأفكار التي تطرح على الساحة في الأمور الدينية في قالب واحد معادي للإسلام يريد هدمه، يسيء لرموز الإسلام وقاماته. مع الوعي التام بأن هناك قضايا تطرح بين الحين والآخر ربما يكون أصحابها من مضطربي الفكر، أو من أصحاب الأفكار الشاذة التي لا علاقة لهم بمثل هذا المشروع التنويري. ومن ثم، من الخطأ جمع كل أصحاب الفكر في فئة واحدة، لأن هناك تباينا شديدا في الرؤى والتوجه فيما بينهم، وهذا منشأ خطورة التصنيف والتعميم.
ويمكن القول بوجود شخصية تعصبية تتحدد هويتها بمجموعة من الخصال أهمها انغلاق العقل والجمود العقلي الذي يتميز بمقاومة التغيير ورفضه، والرغبة في الإبقاء على القديم، والخوف من المجهول في الجديد. فالعقول المغلقة ليست مستعدة لأن تنفتح على الجديد، بل إنه يسبب لها اضطرابا نفسيا غير مبرر ويخرج أصحابها عن شعورهم عندما يواجهون بهذا الجديد. فالجمود الفكري الذي يسم مثل هؤلاء الأشخاص يجعلهم غير قادرين على تقبل الأفكار الجديدة والتجاوب مع مقتضيات العصر. وقد واجه المجددون والمحدثون صعوبات جمة عبر التاريخ، وهذا شيء متوقع.
ويرتبط ذلك بخصلة أخرى مهمة وهي التصلب العقلي وفقدان المرونة التي تساعد صاحبها على التكيف مع مقتضيات الحياة،وتقبل الجديد.وهي مظهر آخر للجمود العقلي، حيث ترسخت لدى الأشخاص المتعصبين ممارسات معينة وطقوس دينية وعادات وتقاليد بالية لا تتوافر لديهم المرونة لقبول بدائل لها لوجود قناعة تامة بأنها الأنسب والأفضل لهم.
وتؤدى "المجاراة" ومسايرة القطيع دورًا مهما في تبنى التعصب والاستجابة له، وبخاصة لدى أنصاف المتعلمين أو ذوي التعليم المحدود الذين يمكن استمالتهم بتبنى مظاهر التعصب الديني، ومن ثم الانضمام لجماعات معينة يمكن أن توجهها لارتكاب أعمال عنف مثلما كان يحدث من الجماعة الإرهابية، تحت مظلة الدين، دون إدراك هؤلاء الاشخاص لمخاطر ما يفعلونه، ولا الآثار التي تترتب عليه.
وعلى ذلك، فإن التعصب أهم الصعوبات التي تعوق محاولات تجديد الفكر الإسلامي، والذي يحتاج لجهود مضنية في البداية لتغيير اتجاهات الأشخاص المتعصبين، والتقليل من مخاطره، حتى يمكنهم تقبل الجديد والتفاعل مع مقتضياته، وإدراك آثاره الإيجابية على المجتمع بأسره بما يحقق رفاهيتهم ويعزز حسن توافقهم النفسي والاجتماعي، في ظل عقول متفتحة، قادرة على إعمال العقل وتطوير طرق تفكيرها بما يتناسب مع متطلبات العصر.