الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

«الديموجرافية العراقية» ماذا فعلت في أرض الرافدين؟

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
إن التركيبة السكانية لبلاد الرافدين كانت شديدة التأثير وبالغة التباين والأثر على معطيات الحياة العراقية وعلى الشكل السياسى للدولة العراقية.
تلك التركيبة التي كانت دائما حبيسة داخل أفكار العراقيين تتعمق وتتوغل داخلهم.. إلا أن القومية العراقية كانت هى الغالبة والحاسمة لديهم في مواجهة كل مخاطر الخارج التى داهمت الدولة العراقية على مر الحقب والعصور.. فبقيت دولة العراق موحدة رغم التباين الطائفى والتنازع القبلى الذى يرسم واقع الخريطة العراقية.
فالعرب الشيعة يمثلون أكثر من ٥٦ في المائة من سكان العراق، وهم يتركزون في الجنوب العراقى المجاور لإيران الفارسية، أما العرب السنة فيتواجدون في الوسط والشمال الشرقى الأوسط العراقى، بينما يقطن العرب الأكراد الشمال الشرقى، وفى الغرب يتواجد القلة من اليزيديين والتركمان مع أقلية مسيحية تسكن بغداد العاصمة وبعض المدن الصغيرة في الشرق العراقى، وتمثل بعض التجمعات المتناهية الصغر الآشوريين المهاجرين من بطش القمع الأوروبى أثناء الحرب العالمية الأولى جزءا بسيطا في تكوين التركيبة السكانية للعراق.
وقد كانت للقومية العراقية الغلبة دائما على تلك التعددية الطائفية في العراق، وظهر ذلك جليا في مقاومة الاحتلال العثماني السني بانضمام العرب الشيعة إلى العرب السنة في إنهاء التواجد العثمانى على الأراضي العراقية.. وبدا أيضا واضحا وجليا في الحرب العراقية الإيرانية التي امتدت لثمانى سنوات حتى أن الجيش العراقى المقاتل كان يضم النسبة الأعظم من العرب الشيعة.. ورغم أن الشيعة يمثلون النسبة الأكبر التى تتعدى ٥٦ في المائة من السكان فإنهم ارتضوا أن يكون الحكم للعرب السنة. 
وقد حاولت إيران عقب سقوط حكم الشاه.. أن تثير القلاقل في الجنوب العراقى ضد الحكم السنى بقيادة باقر الحكيم وهو عراقي شيعي من أصل هندى.. إلا أن صدام حسين استطاع قمع تلك الثورات التى أشعل وقودها آية الله خومينى. 
وبقيت القومية العراقية هى الغالبة على تلك العرقيات في كل من العراق وإيران حتى سقوط العراق وإعدام صدام حسين.. وانسحاب القوات الأمريكية من العراق دون ترتيب ودون تدعيم أركان الدولة الساقطة وبعد تعيين من هم يدينون بالولاء للإدارة الأمريكية دون تحسب للمخاطر التى يمكن أن تشهدها العراق ووسط أعمال عنف متزايدة في أرجائها.. وقد أوسعت أمريكا بفعلتها هذه المجال للمد الشيعى والحلم الفارسى الكامن في الجوار العراقى الذى وجد الفرصة مواتية لملء الفراغ السياسى وضعف الحكومات المتعاقبة للانقضاض وتحقيق مآربه.
ويشهد الموقف على الساحة العراقية تعقيدا وتشابكا لم يصبح سهل الحل فالمبارزة على الأرض العراقية تتم بين المد الفارسى الشيعى وبين رجل الكاوبوى الأمريكى في صراع الهيمنة والسيطرة على مناطق النفط العراقى وإخضاع مناطق النفوذ. 
ولعل أهم ما أدى إليه هذا الصراع هو ظهور ما يسمى بتنظيم (داعش) الذى صنع بأيدى أمريكية للتصدى لمد الحرس الثورى الإيرانى في العراق وإيقافه.. وقد تكبدت الدولة العراقية في فترة السيطرة الداعشية خسائر تقدر بخمسين مليار دولار من احتياطى الذهب الذى استولى عليه رجال التنظيم وخسرت أكثر من خمسمائة مليار دولار على مدى السنوات السابقة.. فضلا عن ارتفاع معدلات البطالة ونزوح السكان شرقا وغربا هربا من بطش الدواعش.
وإذا كانت الخصائص الكونية للتركيبة السكانية في العراق قد غلبت عوامل الطائفية على عوامل القومية، فإن الخصائص النوعية لهذه التركيبة والخاصة بالتعليم والثروة والمستوى الاجتماعي والاقتصادى قد أجهزت على الباقية المتبقية من النسيج العراقى في أرض الرافدين فقد سجلت البطالة أعلى معدل لها فضلا عن تقسيم جائر لمصادر الثروة. 
وما زالت مغامرات النزال الأمريكى الإيرانى جارية على أرض العراق المحترقة.. وما زال الشعب العراقى منقسما داخليا بين السنيين الذين يطالبون الرئيس المستضعف وحكومته برئيس حكومة تكنوقراط لا ينتمى إلى المعسكر الشيعى وبين الشيعيين المدعومين بميليشيات الحشد والأغلبية البرلمانية التى تطالب برحيل القوات الأمريكية.. يحدث ذلك كله والعراقيون مغلوبون على أمرهم.. وما زالت بعض الشعوب العربية في مناطق أخرى غير واعية لما يحدث. 
تبقى تلك الديموغرافية العراقية متباينة التقسيم مغلبة ومرجحة كعامل أساسى في تقسيم العراق.. بينما تتمتع الديموغرافية المصرية بنسيج متماسك.. فهذه التركيبة صنعت لها سدا منيعا في مواجهة أى تدخل خارجى.. فالمصريون دائما يستدعون القومية التى تعيش متوطنة بداخلهم وقت أن يحين الخطر.. وتتغلب الوطنية ووحدة النسيج المصرى لتعلو وتحلق فوق سمائها.. وهذا ما ضمن لهذا البلد أن يبقى بلدا واحدا على حدودها القديمة عبر آلاف السنين.. فهذه مصر وهذا غيرها.