الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

حكايات من دفتر الوطن "5"

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
عندما قال البابا كيرلس الخامس: "الإنجليز خارجون عن الدين" يأخذنا صلاح عيسى بأسلوبه البارع في الحكى والسرد، في كتابه «حكايات من دفتر الوطن»، إلى رحلة مدهشة في أعماق التاريخ، إلى حكايات تفيض بالشجن والقهر والأحزان، والخيانة والمقاومة، والاضطهاد والقتل، حكايات تنقل قارئها إلى الزمن الذى جرت فيه الأحداث بكل ملامحه وشخوصه ومبانيه وحوادثه وصحفه وفنونه، حكايات مليئة بالصور التاريخية النادرة لأبطال الزمان الذى ولى، بشرا وأماكن وحوادث.
يحكى صلاح عيسى في الفصل الخامس الذى حمل عنوان «البطريرك في المنفى»، قصة بطل يعد من أهم شخصيات التاريخ المصرى الحديث، على الرغم من أنها ليست معروفة لكثيرين، حدثت حكايته وكانت مصر آنذاك يلفها الحزن، وجرح الاحتلال طريا لم يزل، وأظافر الغزاة لا تكف عن النبش فيه.
يقول عيسى: اسمه الحقيقى «يوحنا الناسخ» أما اسمه الدينى فهو «البابا كيرلس الخامس» البطريرك الذى ترأس الكنيسة ثلاثة وخمسين عاما متتالية، ولد في عهد «محمد على»، ومات في عهد «الملك فؤاد»، وقد زاد عمره عن القرن، وشهد ثورتين من أعظم ثورات التحرر الوطنى المصرية، هما الثورة العرابية وثورة 1919، وساهم في صياغة الموقف الوطنى الذى اتخذته الكنيسة المصرية خلال هاتين الثورتين ضد الاستعمار وأعوانه.
يصف صلاح عيسى «البابا كيرلس» بأنه رجل نقى طاهر، قوى كأقوى ما يكون الرجال، عنيدا، صلب الشكيمة، يملك قدرا بالغا من التحدى دفعه لمعارضة جماهير الأقباط والحكومة معا، وتحمل نتائج مذهلة!!، لعل أخطر ما صدر عنه فتواه الشهيرة التى قال فيها إن الإنجليز بعدوانهم ومحاولتهم احتلال مصر، قد خرجوا عن تعاليم المسيحية الحقة، ومن ثم أعتبرهم كفرة خارجين عن دينهم.
يقول عيسى بدأت الحكاية عندما انتخب الأنبا «كيرلس» بطريركا عام 1874، قام «مجلس ملى الأقباط» بانتخابه، وبعد إجراء التنصيب الدينى، مع الوقت بدأ يضيق بالمجلس الملى، وبات يشعر أنه ينازعه سلطاته، وبدأ البابا يخطط ليتخلص من هذا القيد، وظل الحال هكذا لمدة سبع سنوات.
وعندما هلت بشائر الثورة العرابية، تحركت مجددا فكرة «المجلس الملى» خاصة بعدما أنشأ «عبدالله النديم «الجمعية الخيرية الإسلامية» لرعاية فقراء المسلمين، وسرعان ما تشكلت «الجمعية الخيرية القبطية» برئاسة الوزير «بطرس غالى»، وتبنت الجمعية فكرة «بعث المجلس الملى»، إلى أن شكل من جديد وبدأ يمارس اختصاصاته، ثم استصدر القائمين عليه قانونا يحدد العلاقة بين الكنيسة والمجلس الملى.
برلمان علمانى
يوضح عيسى أن لائحة المجلس الملى باتت برلمانا خاصا للأقباط في مصر يبحث في شئونهم، وينظر في ميزانية الطائفة، والمثير أنه برلمان «علمانى» مكون من الأقباط العاديين، ليسوا من رجال دين.
ومن هنا أخذ الصدام يحتدم بين «المجلس الملى» و«البطريرك»، حيث كانت المادة التاسعة من اللائحة تجعل من اختصاصه حصر جميع الأوقاف الخيرية الموقوفة على الكنائس والأديرة، وأن يطلب بيانات رسمية بقيمة المدخرات والنقود التابعة لتلك الأوقاف، وأن يشرف المجلس على الأديرة ويحصر أمتعتها، واللافت أن أعضاء المجلس قدموا انتقادات لحالة الأديرة، وخاصة فيما يتعلق بسلوك رؤساء الأديرة، والطريقة التى يتصرفون بها في ريع الأوقاف الضخمة.
ألف ليلة وليلة
وأوقاف تلك الأديرة التى فجرت الأزمة، -حسب المؤلف- هى عدد كبير من العقارات والأراضى الخصبة، قدرت قيمتها عام 1906 بمليون ونصف المليون من جنيهات ذلك الزمان، وكانت هذه الأملاك كلها تحت تصرف رؤساء الأديرة، الذين لم يكن عددهم يزيد على أصابع اليدين، وقد أساءوا استغلالها وتصرفوا في إيراداتها بلا رقيب، وأخذوا يبعثرون المال كما يريدون، فيشترون به العقارات ويسجلونها بأسمائهم وأسماء أقاربهم، وهم رهبان يعيشون في بذخ وترف، وقيل إنهم كانوا يعيشون حياة أقرب إلى حياة ألف ليلة وليلة!.
وعلى الرغم من تلك المعايير المختلة، دافع البطريرك عن الأديرة -تحت ضغط رؤساء الأديرة فيما يبدو- وانتهى الخلاف بتجميد المجلس الملى مرة أخرى. 
الأوامر الإلهية
وفى عام 1891 توجه عدد من وجهاء الأقباط إلى البطريرك، وطلبوا إعادة تشكيل المجلس مرة أخرى، رفض البابا بحجة أن لائحة المجلس مخالفة لشرائع وقوانين الكنيسة، لكن وجهاء الأقباط لم يرضخوا لرأى البطريرك، ووجهوا دعوات إلى الشعب القبطى لكى يجتمعوا وينتخبوا الجمعية العمومية للمجلس، وحددوا مكان الاجتماع بالدار البطريركية، وهنا سارع البطريرك وأخطر الشرطة، التى أحاطت بالدار البطريركية، ومنعوا المتجمهرين من الاجتماع، وهكذا تفجر الصراع ليصبح علنيا. 
وأمر البطريرك بتشكيل «مجمع مقدس» مؤلف من عموم الأساقفة ورؤساء الأديرة ورؤساء الشريعة للنظر في مدى انسجام تشكيل «المجلس الملى» مع الإنجيل، وأصدر الآباء الأساقفة قرارهم بأن فكرة إنشاء مجلس ملى هى فكرة مخالفة للإنجيل وللقوانين الكنسية، ومخالف للأوامر الإلهية والنصوص الرسولية، وأكدوا أن إنشاء المجلس يعد بمثابة سلب لحقوق الكنيسة وشرف رؤسائها المأمور بها من الإله، وتسليم شعبها لقيادة من لم تكن لهم السلطة.. طبع القرار ووزع على جميع كنائس مصر، ورفع إلى الخديو.
غايات خبيثة
يكشف المؤلف النقاب عن الحرب الشرسة التى دارت بين البطريرك ورجال المجلس الملى، عندما قرر طلاب المجلس الملى أن يدخلوا المعركة ضد البابا، وشنوا هجوما حادا على البطريركية، وطوروا أساليب هجومهم، فإذا بسيل من العرائض والتلغرافات تنهال على الحكومة وعلى «الخديو» تطالب بإلحاح بتشكيل «المجلس الملى».
وبالفعل نجحوا في تحقيق هدفهم، بعدما قابل «بطرس غالى» «الخديو عباس حلمى» الذى استجاب لطلبه، وأمر باتخاذ الإجراءات اللازمة لإعادة تشكيل المجلس.
سرعان ما تشكل المجلس وكان معظم أعضائه من ألمع رجال القانون والقضاء والمال والفكر في مصر كلها، ولم يحضر البابا هذا الاجتماع ولم يترأسه كما تقضى بذلك اللائحة، بل وأرسل البابا منشورا إلى كافة الكنائس يؤكد على أن تشكيل مجلس علمانى لإدارة شئون الطائفة، يعد خروجا عن تعاليم المسيحية وقوانين الكنيسة، وبالتالى تزعم البطريرك حركة دعائية واسعة ضد إعادة انتخاب المجلس.
وهكذا وضع البطريرك ثقله الدينى كله ضد عودة «المجلس الملى»، واستمرت الحرب بينهما، وأخذ البطريرك يهاجم المجلس في الصحف.
تصاعد الغضب
وفى تطور مثير يقول عيسى: قرر الخديو عباس حلمى «إعفاء «البطريرك كيرلس» من تولى الإشغال الإدارية، ما أدى إلى تصاعد الغضب البطريركى، وأصر البابا على موقفه، ورفع الأمر إلى الخديو.
وقتذاك كانت هناك محاولة لعزل البابا، وتعيين «أسقف صنبو»، وعندما علم البابا سارع بعقد «مجمع روحى مقدس» مؤلف من ثلاثة أساقفة على رأسهم «الأنبا يوأنس» صديق البابا ونحو عشرين قسيسا، وبعد المداولة قرروا: «حرم الأسقف وقطعه من الرتب الكهنوتية»، وأبلغوا «أسقف صنبو» بقرار طرده من الكنيسة لأنه تعدى حدود وظيفته وقبل إدارة شئون الطائفة بدلا عنه، ويبلغ القرار إلى الصحف.
بذلك قرر البابا المقاومة حتى النهاية، وأعطى تعليمات مفصلة لمن هم بالدار البطريركية بكيفية التعامل مع العصاة، وعندما توجه أعضاء المجلس الملى إلى الدار للاجتماع، وجدوا بابها مغلقا في وجوههم، لذا اتخذ «المجلس الملى» قرارا بعزل البابا إلى دير مواس، والمطران يوأنس إلى دير «الأنبا بولا»، وصدق الخديو، ونفذا البطريرك والمطران القرار. 
قرار أم قنبلة
يقول عيسى: بذكاء ومهارة شديدتين كان البابا كيرلس قد لغم الأرض أمام أسقف «صنبو»، فعندما دخل الدار البطريركية، صدم بقرار الحرمان الذى أصدره «البابا كيرلس»، وحاول المجلس الملى أن يواجه الموقف عبر بعض الأساقفه لحل الحرمان الذى أوقعه البابا، لكن الأساقفة قالوا إنه تحريم صحيح وقانونى، ولا يمكن أن يحله إلا الذى أصدره.
استقلال الكنيسة
يؤكد المؤلف أن القضية الرئيسية لم تكن قضية البابا» و«المجلس الملى» بقدر ما كانت قضية استقلال الكنيسة المصرية، والحرص على طابعها القومى، ومنع التيارات الأخرى من التسلل إليها.
وفى 31 يناير 1893، صدر العفو عن بطريرك الأقباط ومطران الإسكندرية، وبذلك لم تنجح إنجلترا في مساعيها، وهى جعل الكنيسة القبطية بروتستانتية المذهب، ويكون جميع الأقباط تحت حماية إنجلترا.