الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

سيد الوكيل يكتب: «هذا قولى والله المستعان»

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كنت حريصا على حضور ندوة بمعرض الكتاب عن أزمة النقد، وأولى ملاحظاتى، أن المبدعين الذين يعانون غياب النقد أو تكلسه، لم يكونوا حريصين على الحضور، إنها نفس الممارسة التى يعيشونها فى المشهد الثقافى، فهم يطالبون النقاد بالاهتمام بهم فيما هم لا يهتمون بالنقد. ولا بما يكتبه النقاد عن أى شخص آخر غيرهم. هكذا أصبح النقد مجرد وجاهة اجتماعية كحفلات التوقيع، وسبيلا للتفاخر بأن فلانا كتب عن فلان، وليس قاسما مشتركا للإبداع كونهما وجهين لعملة واحدة.
أما ثانى الملاحظات فكانت دهشتى من أن المنصة يعتليها أربعة من الأكاديميين الكبار ولا مبدع واحد بينهم. أليس للمبدع حق الكلام هنا؟ 
بدا لى هذا اعترافا مضمرا بأن النقد شأن يخص الناقد فقط. ويعنى هذا غياب الاعتراف بقيمة القاسم المشترك مرة أخرى. فلا حوار من أى نوع بين النقاد والمبدعين.. خصومة غير مفهومة المعنى. فهل يمكن أن يتطور المشهد الأدبى فى واقع على هذا النحو من الانشطار؟
الطريف أن الأكاديميين الأربعة، راحوا ينتقدون الخطاب النقدى الأكاديمى بقسوة، معبرين عن إحساسهم بعزلته. وعدم جدواه فى واقع تسيطر عليه وسائل الإعلام. فالمبدعون يكتفون بمقال سطحى ودعائى فى جريدة، أو على الفيس ولا يبالون بدراسة نقدية موثقة. 
أن ينتقد الأكاديميون خطابهم النقدى، فهذه شجاعة تحترم، نقد ذاتى مقدر، لكن لوم الصحافة عن قدرتها على ملء الفراغ النقدى، بالتحرك فى فضاء واسع وبسيط نوع من تبرئة الذمة. يخفى إحساسا بالحسرة من المنافسة الإعلامية وفيس بوكية التى أزاحت الناقد الأكاديمى إلى هامش المشهد. 
لماذا لا نعترف بتعددية المشهد الثقافى؟ هذا هو السؤال الذى ألح على رأسى وأنا أجلس أسفل المنصة السماوية.
فى الواقع ليس مطلوبا من الخطاب الإعلامى أن يكون أكاديميا رصينا كما يأملون، فهو إعلامى بالضرورة ودعائى بالدرجة الأولى. كما أن الخطاب فيس بوكى تواصلى وتفاعلى لا غير. 
وفى المقابل ليس مطلوبا من الأكاديمى أن يقدم خطابا مناسبا ومتاحا للشارع الأدبى، فلا مناص من أن يظل محكوما بمنهجيته، ومصطلحاته، وإجراءاته.. فالخطاب الأكاديمى بحثى بالضرورة، ولا بد للبحث من أدوات تضمن موضوعيته ودقة نتائجه. لكل منهما لغته، فللباحث لغة علمية متحفظة، وللصحفى لغة تداولية بسيطة.
باختصار: من حق الأكاديمى أن يكون متخصصا ولو فى "حتى"، ولا نلومه فهذا عمله طالما يعى دوره البحثى والتعليمى الذى يفضى إلى تأسيس مناخ ثقافى متميز. وعلى الرغم من خطايا النظام الجامعى التى لا تعد ولا تحصى، والتى تبدأ بمكاتب التنسيق. إلا أن درجات الوعى الذاتى تفرق بين أكاديمى بدرجة موظف، وآخر بدرجة عالم. 
ومن حق الإعلامى أن يكون نجما مطلوبا على كل الموائد، حتى أصبح وجوده تقليدا فى كل لجان تحكيم الجوائز مدفوعة الأجر الجزيل. لكن وجوده يجب أن يكون مشروطا بفاعليته وجدارته فى المشهد الثقافى. لكن أن يكون بعيدا كل البعد عنه فيما عليه أن يبت فى أمور المنح والاستحقاق وهو لم يقرأ حتى رواية «الفيل الأزرق» التى قرأها تلاميذ المدارس الصناعية وسائقو التكاتك. فهذا من قبيل الرشاوى المقنعة. 
المشكلة فى تقديرى تكمن فى الحلقة المفقودة بين الخطابين: الأكاديمى والصحفى. 
هنا أنا مضطر أن أفرق بين الناقد والباحث. فليس كل أكاديمى ناقدا مهما كانت درجته العلمية. النقد ملكة وموهبة درجة من الوعى الإبداعى، وليس تطبيقا لإجراءات وأدوات على نحو ما أسمع من أكاديميين وهم يخبروننا إذا ما كان المبدع يمتلك أدواته أم أنه فقدها فى الطريق. 
النقد ليس لغوًا بمصطلحات وأسماء كبرى من قبيل جيرار جينت، وجاكبسون... إلخ، وليس تقليدا ممنهجا كأن عليه أن يدخل النص من بابه فيحدثنا عن عتبات النص أولا قبل أن يلج إلى اللغة الشعرية، وما إلى ذلك من خصائص هى موجودة بالضرورة فى كل وأى عمل أدبى: المكان والزمان والضمائر والراوى العليم والراوى الذى لا يعلم. والله أعلم بما يفعلونه من تنميط للخطاب النقدى. 
لماذا غاب الناقد -غير الأكاديمى- من المشهد؟ لن أحكى لكم عن ضربات الكتف التى أجهدتنى من أكاديميين بهدف إزاحتى من المشهد النقدى. لن أحكى عن ممارسات الإبعاد القسرى من لجان التحكيم والمؤتمرات فقد كبرت على الشكوى..
فى عصر انفتاح المعرفة ما الذى يمكن لشخص ما أن يحصل عليه من معرفة ولا يتمكن منه الآخر؟ لقد انتهى عصر الكهنوت المعرفى بموت شيخ العمود الجالس فى رحاب الأزهر، لا لشىء إلا لأنه يمتلك النسخة الوحيدة من العقد الفريد، فيظل هو الوريث الشرعى لابن عبد ربه رغم أننا جميعا عباد الله. 
الأمر إذن يتعلق ببذل الجهد لكى نعرف أكثر ونطور ما عرفناه ولا نكتفى بما أجازته لنا اللجان العلمية بعد طقوس المداولة الوهمية. 
ما زلنا نتحسر على الستينيات عندما كان المشهد النقدى متعددا بين أكاديميين كبار أمثال غالى شكرى وعلى الراعى، وإعلاميين كبار مثل رجاء النقاش، ومبدعين كبار مثل يحيى حقى الذى وضع أشهر كتاب فى القصة القصيرة "فجر القصة المصرية"، ولا أدريين كبار مثل محمود أمين العالم.
بالضرورة تفضى التعددية إلى التنافسية والارتقاء.. هذا ما حدث فى الستينيات.
لست متشائما على أية حال.. ألمح أطيافا من أكاديمى الجيل الرابع الذين عاصروا تكنولوجيا المعرفة. يدركون قيمة التعددية ليس فى قبول الآخر فحسب.. بل أيضا ينفتحون على معارف مختلفة، ويجتهدون فى قراءات إبداعية تخصهم وحدهم فرارا من التقاليد الأكاديمية. كما ألمح أطيافا لمبدعين موهوبين يقاربون النقد على استحياء ورهبة من غمز ولمز ولكز الأكاديميين على المنصات. مبدعون يقلبون مقولة "إن الناقد مبدع فاشل" إلى العكس، فالناقد لن يكون سوى مبدع فى نقده. 
هذا فقط ما ينبغى أن يكون عليه الناقد كما يراه إدوار سعيد فى معرض كلامه عن الدور العام للكتاب والمثقفين. وكما أستشهدُ برولان بارت الذى بدأ حياته أمينا لمكتبة عامة فى بوخارست أتاحت له فرصة واسعة للمعرفة، فأحدث انقلابا فى المشهد النقدى العالمى بكلامه عن موت المؤلف بما اضطر "الكوليج دى فرانس" أن تمنحه درجة الأستاذية. 
العالم الآن، بفضل التكنولوجيا، أصبح مكتبة متاحة أكثر مئات المرات من مكتبة رولان بارت. ولا نملك لشيوخ الأعمدة غير الدعاء بالرحمة. 
تلك شهادتى قبل أن ينقضى الأمر. وذلك إيمانى بأن الثورة تبدأ من داخلنا وليس من ميدان التحرير.