الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

في الفرق بين الاستقلال والاستقلال «التام»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
‏• تراخى المسافات بين معانى المصطلحات ومدلولات الكلمات، هى أهم آفات العقل العربى عمومًا والعقل المصرى على وجه الخصوص.
• وقد يصل الأمر إلى وضع النقيض محل نقيضه في تطابق مدهش وعجيب، تترتب عليه مواقف ملتبسة مضحكة.
• فقد يريد أحدهم أن يهجو الرأسمالية مثلًا، فإذا به يغرق في هجاء الليبرالية، وقد ينتقد أحدهم الزعيم جمال عبد الناصر، فينبرى آخرون على الفور في الهجوم عليه متهمينه بكراهية الجيش المصرى (رغم أن الرئيس جمال ليس هو الجيش طبعًا). 
• وقد ينتقد أحدهم رأى لفضيلة شيخ الأزهر فيرفض الكثيرون أي نقد (للدين)، بينما الدكتور أحمد الطيب ليس هو الدين طبعًا. 
• لكنه ذلك المرض العضال الذى يطلق عليه صديقى المفكر المتفرد شادى فؤاد «تراخى المسافات» لدى العقل العربي. 
• وفى هذا الجو المفعم بالضبابية وغياب المسافات والحدود الإبستمولوجية المعرفية بين المصطلحات ومدلولاتها؛ فتصبح الرأسمالية هى الليبرالية، والليبرالية هى الديمقراطية، ويصبح ناصر هو الجيش، والطيب هو الدين، ويصبح مصطفى كامل مثل عرابى مثل سعد زغلول، ويوضع ثلاثتهم في سلة واحدة، بينما هم يختلفون تمامًا في منهجهم الوطنى وطريقة تفكيرهم ودورهم ونتائج ما صنعوا لهذا الوطن.
• فبينما كان منهج مصطفى كامل يتأسس على المراهنة على الخارج (الأمة الفرنسية العظيمة حسب قوله)، كان منهج سعد زغلول يقوم على المراهنة على المصريين، وبينما يعتبر سعد زغلول امتدادًا لحركة العرابيين الوطنية التى صكت شعار (مصر للمصريين) لأول مرة، ويصر على الاستقلال التام يقف مصطفى كامل ويدعو إلى التبعية للسلطان العثمانى وللخلافة وللباب العالى في اسطنبول.
• وبينما عاش سعد مرسخًا للوحدة الوطنية راح مصطفى كامل يمعن في الرابطة الإسلامية على حساب الرابطة الوطنية مثلًا.
• كانت مصر يحكمها رمزيًا (خديو) يسكن قصر عابدين، ويديرها (معتمد) بريطانى، ثم (مندوب سامى) فيما بعد يقبع في قصر الدوبارة. 
• كانت مصر ولاية عثمانلية ومستعمرة إنجليزية في آن معًا اعتبارًا من العام ١٨٨٢.
بينما كانت التبعية العثمانلية سابقة بقرون على ذلك؛ حيث دخل سليم الأول العثمانلى مصر واحتلها في العام ١٥١٧.
بعد قتال ضار مع المماليك الغرباء المحتلين أيضًا، وهم (عبيد أبيض) من إيران وتركيا (حاليا). 
كان التركى ابن طولون قد استقدمهم إلى مصر كى ينفصل بها عن الخلافة العباسية في بغداد. 
• وفى العام ١٩٠٧ الذى يسميه مؤرخو التاريخ الحديث لمصر بحق عام تأسيس الأحزاب المصرية، تبلورت حركة المصريين الوطنية، وعبرت عن نفسها في ثلاثة أحزاب أساسية وثلاث وجهات نظر لمجمل المصريين وشارعهم السياسى والوطنى. 
• الحزب (الوطني) بزعامة مصطفى كامل الذى تأسس رسميًا في ٢٧ ديسمبر، و(الوطنى الحر) الذى تأسس في ٢٦ يوليو بزعامة محمد بك وحيد الأيوبي، و(الأمة) في ٢١ سبتمبر من العام نفسه بزعامة محمود باشا سليمان.
• عبرت عنهم ثلاث صحف الحزب الوطنى جريدة (اللواء)، والحزب الوطنى الحر صحيفة (المقطم) والأمة جرنال (الجريدة). 
• الثلاثة كانوا ينادون بالاستقلال، ولكن كان لمفهوم «الاستقلال» عند كل منهم معنى ومدلولا مختلفا تمامًا عن الآخر. 
• حيث كان الاستقلال عند مصطفى كامل هو الاستقلال عن بريطانيا فقط. 
• والاستقلال عند محمد بك وحيد هو الاستقلال عن التبعية العثمانلية وفقط، وعلينا أن نستفيد (وفقًا لطرحه ومنهجه) من المحتل الإنجليزي المتقدم ووجوده في بلادنا وقدرته على تحديثها!! 
• أما «الاستقلال» لدى حزب الأمة وجرنال الجريدة الذى يرأس تحريره أستاذ الجيل أحمد باشا لطفى السيد هو الاستقال ولكن (التام). 
الاستقلال عن بريطانيا وعن التبعية العثمانلية. 
• وراحت النخبة المصرية تدخل في جدل وطنى عارم بداية من العام ١٩٠٧. 
فهناك من هو مع الاستقلال عن بريطانيا، وهناك من هو مع الاستقلال عن العثمانيين، وهناك من هو مع الاستقلال عنهما مجتمعين. 
• كان هناك من يحج إلى قصر عابدين ويعتبره قبلته؛ حيث أعتاب الخديو، ومن يأوى ويهرول إلى قصر الدوبارة، حيث يقبع المعتمد البريطاني، وكان هناك من يرفض التبعية للقصرين عابدين والدوبارة. 
• كانت مصر حائرة بين القصرين، وكان الخديو عباس حلمى الثانى ابن توفيق صاحب هوى عثمانلى على خلاف معظم أجداده العظام الذى كان هواهم فرنسي، فيما عدا عباس حلمى الأول الذى كان ميله إنجليزيًا، حيث كانت إنجلترا تدعم المماليك عندما ولى المصريون محمد على باشا الكبير في العام ١٨٠٥.
• وظهر حزب الأمة الذى يطلق عليهم أساتذة التاريخ الحديث (بناة الوطنية المصرية) برئاسة محمود باشا سليمان عمدة الصعيد وكبير الليبرالية المصرية، والرجل الذى عرض عليه الإنجليز ملك مصر فرفض، ووالد محمد باشا محمود رئيس وزراء مصر فيما بعد.
• كان معه على باشا حسن باشا عبد الرازق وكيلا للحزب وهو ابو الشيخ الأزهرى العظيم على باشا عبد الرازق صاحب كتاب «الخلافة الإسلامية»، الذى أكد أن الخلافة ليست جزءا من الدين، وأنها نظام سياسى لا علاقة له بالدين، وأسقط عن ذلك النظام قدسيته الدينية المزعومة، وأحمد باشا لطفى السيد أمين سره ورئيس تحرير جريدته ومعهم على شعراوى باشا وعبد العزيز فهمى بك وحمد الباسل بك وحسن صبرى بك ومحمود عبد الغفار بك وأحمد فتحى زغلول، وقد تبنى الحزب الفكر الليبرالى، ورأى أن الارتقاء بالتعليم وبناء ديمقراطية على أساس من النظام الدستورى الطريق الوحيد لتحقيق رقى مصر واستقلالها.
• وراح أستاذ الجيل يرد على مصطفى كامل، ويدخل معه في حوار عبر الصحيفتين (اللواء والجريدة)، وهو الحوار الذى اعتبره الحوار السياسى والوطنى الأهم في تاريخنا الحديث بين زعيمين شابين أحمد لطفى السيد (٣٥ سنة)، ومصطفى كامل (٣٣ سنة) والذى يجب تدريسه في مدارسنا.
• راح مصطفى كامل يرفع شعار «الدين يجمعنا».. «الجامعة الإسلامية».. «الخلافة الإسلامية».. «التبعية العثمانلية».
• ورد عليه أستاذ الجيل أستاذ القومية المصرية أحمد لطفى السيد، وطرح شعاره بل «الوطن يجمعنا».. «الجامعة الوطنية».. «لا للقصرين، مصر للمصريين».. «الاستقلال (التام)»، وظل الرجل يكتب ويرد على كامل، والمصريون يتابعون والمعركة السياسية تحتدم والتصنيف على أشده في الشارع، حتى انتهت بأن انحازت الأمة لحزب الأمة وصار ملء السمع والبصر، ومات كامل في العام ١٩٠٨، وانتهى حزبه وغادر خليفته محمد فريد إلى ألمانيا في العام ١٩١٢، ومات هناك بعد ٧ سنوات، وظل أستاذ الجيل يكتب ويكتب وهو الذى وضع الأساس النظرى كله، والشعارات الوطنية لثورة الشعب العظيمة في العام ١٩١٩، وكان الاستقلال (التام) أو الموت الزوءام، هو شعار ثورة المصريين، وتبلورت أيضًا فكرة «الجامعة الوطنية» التى طرحها أستاذ الجيل في الشعار الشهير الذى صحكته حركة المصريين الوطنية «عاش الهلال مع الصليب». 
• وماتت دعوة مصطفى كامل، كما تهاوت دعوة محمد وحيد الأيوبي، وتلاشى الحزبين الوطنى والوطنى الحر إلى الهامش، وظل حزب الأمة يملأ المتن الوطنى، ويلتف حوله معظم المصريين حتى قامت ثورة ١٩. 
ثم ينشطر بعد الثورة إلى حزبين كبيرين الأحرار الدستوريين في العام ٢٢، والوفد في العام ٢٤، ليرث المعلم الإلزامى ابن البحيرة (حسن البنا) دعوة كامل للخلافة الإسلامية في العام ٢٨، ويعمل لإحيائها وتدعمه المخابرات الإنجليزية لضرب الحركة الوطنية المصرية كلها، وبذر بذور الطائفية الدينية، ومحاولة تمزيق النسيج الوطنى الواحد وتقويض الدولة المصرية.