الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

عبدالرحيم علي يكتب: مباحث أمن الدولة رجعوا الاسم.. بيخافوا منه

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
مضت تسعة أعوام بالتمام والكمال على تعديل اسم «جهاز مباحث أمن الدولة» ليصبح «جهاز الأمن الوطني».



لم يكن مستغربا من الذين حاولوا هدم هذا البلد والقضاء على مقدراته أن يبدأوا بهذا الجهاز، فقد كانوا يدركون جيدا أنه أهم النقاط الحصينة التى تحول دون تنفيذ مخططاتهم.. كان الحزن يخيم على الجميع عندما امتدت يد الغدر لتنال من هذا الصرح الوطنى الشامخ عبر تشريد كوادره وتدنيس مقراته الرئيسية والعبث بمحتوياتها.
وزاد الطين بلة تلك الزيارات المشبوهة التى قام بها خيرت الشاطر وعدد من قادة الإخوان للجهاز، والمطالبة بخروج عدد من الأسماء التى كانوا يعرفونها جيدا من العمل داخل الجهاز، في تصور أجوف منهم أن هؤلاء أكثر وطنية من زملائهم، وأن أحدا سوف يتعاون معهم بعد خروج هؤلاء.. والحقيقة، ورغم كل ما قيل وسيقال، في هذا الموضوع؛ فإن الإخوان لم يستطيعوا تحقيق أدنى اختراق لهذا الجهاز العتيد.
كنت وحدى في تلك الفترة أصرخ في متاهة الخوف والتشكيك داعيا إلى عودة الأسود إلى عرينهم كى يواصلوا الدفاع عن بلادهم.. نلت من التشكيك وحملات الكراهية والإدانة الكثير، من هؤلاء الذين ادعوا زورا وبهتانا أنهم مثقفون وثوار، ثم سرعان ما اكتشفنا حقيقتهم بعد ذلك، وعرضناها كاملة عبر حلقات «الصندوق الأسود».. لم يكن هؤلاء سوى بيادق في يد من يحركونهم بهدف إحداث فوضى عارمة في البلاد تتيح لهم تمرير مخططاتهم.
أذكر عندما حمى الوطيس، بعد ثورة شعب مصر العظيمة في 30 يونيو 2013، أن زارنى في منزلى أحد قادة الجهاز الكبار، طالبا منى أن أمنحه في هدوء قائمة بالأسماء التى أعتقد ويعتقد معى كثيرون أنهم سيحدثون فرقا كبيرا إذا تمت إعادتهم للجهاز.
جلسنا ساعات طويلة نكتب ونسأل ونفحص.. خبرتى بالجهاز ورجاله كانت قد بلغت في ذلك اليوم من أيام 2013 عشرين عاما أو يزيد منذ دخلته للمرة الأولى في عام 1993، عقب تعيين اللواء حسن الألفى وزيرا للداخلية، واللواء أحمد العادلى - واحد من أهم ضباط الأمن السياسي- رئيسا للجهاز.
طلب منى الرجل ألا ألح مرة أخرى في الطلب، وأن أكف عن تلك النداءات التى أطلقها عبر برنامج «الصندوق الأسود» بعودة المغدورين، فهناك من يهتم بهذا الملف على أعلى مستوى في الدولة- توفرت لدى معلومات فيما بعد عن تلك الاتصالات التى تمت عقب نداءاتى في البرنامج- والدليل تلك الزيارة.. لم أتحمل حجم الفرحة، كانت دموعى تنهمر مع كل خبر أسمعه حول عودة بطل من هؤلاء.
لقد أحدثت تلك العودة بالفعل فرقا كبيرا في أداء الجهاز، استعاد من خلالهم قوته، وبدأ في التعافى.

لقد حاولت مدرسة التشكيك في الوطنية المصرية لسنوات عديدة، ولم تزل، أن تباعد بين المواطن المصرى وأجهزته الأمنية الوطنية، بدعوى أن التواصل جريمة، يضعك دائما في خانة العملاء والأمنجية.. لم ترهبنا كلماتهم ولا اتهاماتهم وكنا من أوائل الذين تواصلوا من موقعنا كصحفيين مهنيين مع تلك الأجهزة الوطنية ومنها جهاز مباحث أمن الدولة.. كان ذلك في شتاء عام 1993، أذكر في ذلك اليوم أن قدمنى لمكتب الإعلام بالجهاز العقيد هشام أبوغيدة (آخر رئيس للجهاز قبل تعديل اسمه ليصبح الأمن الوطني)، مسئول النشاط المحلى آنذاك في جهاز أمن الدولة، كان أعضاء المكتب ثلاثة ضباط شبان، أحدهم في الثلاثينات من عمره المقدم حمدى عبد الكريم والآخران في العشرينات، النقيب حامد عوض والملازم أول ناصر محيى الدين، استقبلونى بترحاب شديد، ودارت بيننا مناقشات ساخنة أدركت بعدها كم هى بعيدة تلك الصورة التى يصدرها لنا البعض من أصحاب الأبواق الحنجورية عن هؤلاء الرجال.. وتفرعت وامتدت علاقاتى فيما بعد لتصل إلى رئيس الجهاز آنذاك اللواء المرحوم أحمد العادلي، ولى مع الرجل قصص كثيرة؛ فقد عاصرت معه فك طلاسم قضية الاعتداء على كاتبنا الكبير نجيب محفوظ في أقل من 24 ساعة.. وكيفية اصطياد قادة الجماعة الإسلامية المسلحة وفى مقدمتهم «...» وقادة جماعة الجهاد وفى مقدمتهم «...» الشهير بالأستاذ... وكيف تم إحباط تهريب أكبر شحنة أسلحة إلى مصر عبر السودان في عام 1995.. وكيف كشف الفريق الذى حاول قتل الرئيس مبارك في أديس أبابا، قبل أن يعود الرئيس إلى أرض الوطن، ثم كيف أنقذ الرجل من ست محاولات اغتيال متتالية جعلته موضع ثقة الرئيس فيما بعد..

عاصرت بعدها اللواء أحمد رأفت، تلميذ أحمد العادلى النجيب.. فقد كنت أزور اللواء أحمد العادلى في منزله ذات مرة بعد خروجه من الجهاز، في محاولة لتقريب وجهات النظر بينه وبين اللواء حسن الألفى، بعد أن خرج الأخير من الوزارة بعد حادث الأقصر الشهير في نوفمبر عام ١٩٩٨، باعتبار أن الخلاف بينهما أصبح جزءا من الماضي.. كانت تربطنى بالرجلين علاقة تغلفها الثقة والمحبة، وطرحت على الرجل سؤالا بعد تلك الجلسة؛ ماذا عن الجهاز بعد خروجك وأنت الذى أعدت بناءه من جديد.. قال لى الرجل -رحم الله الجميع- لقد تركت رجالا أفضل منى حبا لوطنهم وانتماءً للجهاز، وذكر لى اسمين أحدهما كان اللواء أحمد رأفت.
سعيت للقاء الرجل لشهور عديدة بعدها، وكم كانت فرحتى كبيرة عندما استقبلنى بمكتبه ليقوم بتقديمى للفرسان الجدد.. اللواء طارق الركايبى واللواء محمد حنفى والعميد عادل رشاد والعميد عادل عزب.. ذلك الرجل الذى تعرفت في مكتبه على الرائد محمد مبروك فيما بعد.
ظلت علاقتى باللواء أحمد رأفت ممتازة حتى بعد أن اختلفنا في الرأى عقب مبادرة وقف العنف التى أطلقها قادة الجماعة الإسلامية في السجون، وتعامل الرجل معها وفق خطته الهادفة إلى تصفية التنظيمات المسلحة ووضعيتها داخل السجون.. ساعات طويلة من المناقشة والأخذ والرد.. وأشهد الله أن أحدا لم يمارس معى أى نوع من الضغط آنذاك لكى أغير أفكارى التى ما زلت على قناعة بها.. وسجلتها، حينها، في كتابى الأول «المخاطرة.. في صفقة الحكومة وجماعات العنف». لم يغضب أحمد رأفت ولم يعتقلنى كما كان متوقعا آنذاك، وإنما عزمنى على فنجان شاى وناقشنى نقاشا مريرا لم ينته إلى شيء.. الغريب أن الرجل بعدها أمر بمنحى كافة الوثائق اللازمة لكتاب كنت قد شرعت في كتابته حول «تنظيم القاعدة من عبد الله عزام إلى أيمن الظواهري».. كان، رحمه الله، مدرسة في الوطنية المصرية أعتقد أن موته، سواء جاء قدرا أو مخططا له، قبيل أحداث ٢٥ يناير ٢٠١١، كان له أثره الكبير في نجاح المخطط.

واستمرت علاقتى بالجهاز حتى بعد سيطرة الإخوان على الحكم.
كانت اللقاءات المكثفة بينى وبين بعض قادة الجهاز ورموزه لحل الشفرات الخاصة باقتحام الجهاز، ومحاولة الاستيلاء على ملفاته وتهريبها للخارج.
كنت وقتها أتابع عن كثب القضية 250 حصر أمن دولة عليا، وهى تسطر أولى صفحاتها بمحضر اقتحام الجهاز وما تلاه.
قبلها بقليل كنا على وشك أن نزف للمصريين بشرى وقوع تنظيم الإخوان في أخطر قضية في القرن الواحد والعشرين، قضية التخابر مع الأمريكان عبر مكالمات مسجلة للمسئول السياسى للجماعة آنذاك محمد مرسى العياط، وضابط الاتصال الخاص بالمخابرات المركزية، مدير محطة إسطنبول، تلك المكالمات التى ألقى القبض على محمد مرسى وقدم بسببها إلى نيابة أمن الدولة العليا في 27 يناير2011. الغريب أن نصوص تلك المكالمات قد اختفت بعد اقتحام الإخوان وحلفائهم للجهاز، ولم يبق منها سوى التفريغ الحرفى المحوكم لها.
أيام عصيبة عاشها أبطال ذلك الجهاز الوطنى آن الأوان أن يعرفها هذا الجيل الذى ورث بعضا من أقاويل مثقفيه عن التعامل مع ذلك الجهاز ومن على شاكلته من أجهزة مصر الوطنية.. ففى يوم اقتحام الجهاز حاول البعض الاستيلاء على أسلحة مجموعة مكافحة الإرهاب، وهى أسلحة متطورة للغاية وخطيرة ليستخدموها ضد المصريين وقواتهم المسلحة، ليتصدى لهم أحد أساطير ذلك الجهاز اللواء سيد الحبال، وينجح الرجل في الخروج بالسلاح من وحدة مكافحة الإرهاب وإخفائه حتى تسليمه للمشير حسين طنطاوى شخصيا فيما بعد، وهى قصة تستحق أن تروى ويصنع عنها أعمال سينمائية ليعرف هذا الجيل كيف حمى كوادر هذا الجهاز، حتى وهم يمرون بأحلك اللحظات بلادهم، وقدموا أرواحهم فداء له..

لن أحكى عن الشهيد محمد مبروك؛ فقد حكيت عنه كثيرا، ولكننى سأظل أحمل غصة موته في قلبى ما حييت.. سوف أحكى عن اللواء أحمد مصطفى ذلك الرجل الذى اختلفت معه عندما كان مسئولا عن الملف الطائفي، ولكننا تصادقنا عندما رأيته كيف يخطط للإيقاع بحبارة ورفاقه في كتائب «بيت المقدس». لقد ظل هذا الثعلب يراوغ حتى أوقع بالعديد من رءوس الإرهاب آنذاك.. بما فيهم من قاموا بتنفيذ حادثة اغتيال محمد مبروك.. كانت سيمفونية رائعة قادها مصطفى ورفاقه مع مجموعة المتطرف، ربما يأتى الوقت لنكتب عنها بالتفصيل؛ فهم وأرواح زملائهم الطاهرة تستحق منا أكثر من ذلك. يبقى الصديق اللواء عادل عزب خارج إطار المنافسة من حيث القرب، واحدا من أهم رموز هذا الجيل وأقربهم إلى قلبي، فعلاقتى بالرجل تعدت حدود العمل إلى صداقة عميقة جمعتنا في حب هذا الوطن.. قاد الرجل سيمفونية متفردة لتفكيك والإيقاع بكوادر الإخوان بعد 30 يونيو 2013، من خلال خطة فصل الرأس عن الجسد في عملية أمنية استغرقت أربع سنوات أفقد فيها الجماعة ميزة الاتصال بين القيادة والقواعد، عمل دءوب شارك فيه العشرات من كوادر الجهاز المحترفين، ضمن مجموعة النشاط الإخواني، ليحققوا في سنوات نتائج مذهلة يحتاج حدوثها إلى عشرات السنين.
تحية من القلب لكل هؤلاء الرجال ولمن أتوا بعدهم ولمن لحق بهم، من رجال وضباط وقيادات جهاز مباحث أمن الدولة.
«رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا».