الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة ستار

«بابيشا».. دماء على ثوب الوطن

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
في سبتمبر 1988، خرج الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد، معلنا ضرورة إجراء حزمة من الإصلاحات في جسد النظام، الذي شهد حالة من الجمود السياسي والاقتصادي، تسبب بها صراع مراكز القوى والصدام الشرس مع قيادات حزب جبهة التحرير الوطني (الحزب الحاكم)؛ وكان هذا الخطاب بمثابة الشرارة التي أشعلت الاحتجاجات داخل الشارع الجزائري المتأجج بسبب ظروفه المعيشية الصعبة.
خرج الشباب الثائر للشارع، بعد أيام قليلة من خطاب "بن جديد"، رافضين العيش تحت كنف الحزب الواحد ومطالبين بالتعددية السياسية والحزبية، وهو ما استجاب له الرئيس والحزب في الأخير لامتصاص الغضب الشعبي.
أعقب ذلك الحراك تعديلات أقرها دستور 1989، تسمح بوجود تعددية حزبية لأول مرة منذ استقلال الجزائر عن المحتل الفرنسي. ولكن هبت الرياح بما لا تشتهي السفن، فمن بين عشرات الأحزاب الجديدة لم يبرز سوى حزب "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" اليميني، الذي أحكم قبضته على طول البلاد وعرضها وأخذ ينشر أفكاره المتطرفة - هو وأذرعه الموالية - داخل المؤسسات التعليمية والمدنية بعد فوزه في الاستحقاقات المحلية والنيابية، التي ألغيت نتائجها في عام 1991 وأعقبها سيطرة الجيش على البلاد، لتدخل الجزائر في نفق الحرب الأهلية المظلم الذي امتد طيلة 10 سنوات، وهو ما عرف لاحقا بـ "العشرية السوداء".

من هنا وتحديدا في تسعينيات القرن الماضي، اختارت المخرجة الجزائرية الشابة منية مدور، أن تسرد حكاية مجموعة من الفتيات اللاتي قررن كسر الحواجز الاجتماعية في وقت لم تكن تمتلك فيه المرأة صوتا للمطالبة بحقوقها، وذلك من خلال فيلمها الروائي الطويل الأول "بابيشا"، الذي شارك ضمن مسابقة "نظرة ما" بمهرجان كان السينمائي العام الماضي، وفاز بجائزة أفضل فيلم عربي من مهرجان الجونة السينمائي في دورته الثالثة.
بابيشا، هو لفظ شعبي دارج يطلقه الجزائريون على الفتيات الجميلات والمدللات، وهو أيضا الاسم الذي تلقب به بطلة الفيلم نجمة (لينا خضري)، الفتاة الجامعية الجميلة ذات الأفكار المتحررة والتي تطمح لتصبح مصممة أزياء راقية في وقت باتت فيه التناقضات ركيزة أساسية للمجتمع الجزائري، حيث ساد اللباس الديني المحتشم والأفكار المتزمتة وأصبح جسد المرأة سلعة بخسة للغرائز الذكورية المكبوتة.

ترصد "مدور" خلال الفيلم حياة نجمة التي تقيم داخل احدى دور السكن الجامعية للفتيات رفقة صديقاتها وسيلة، سميرة وكاهينة، وتسلط الضوء على ذلك العالم الليلي الذي تعيشه هؤلاء الفتيات والضريبة اللاتي يدفعهن مقابل تحررهن. ترسخ ابنة المخرج الجزائري الراحل عز الدين مدور، لذلك منذ بداية الفيلم بمشهد لنجمة ووسيلة وهن يتسللن إلى خارج المبنى بهدوء، كي لا يراهم حارس الأمن الذي يتعمد استغلالهم تارة ماديا وأخرى جنسيا مقابل عدم إبلاغ الإدارة، في طريقهن إلى أحد أماكن السهر الليلة.
ومع الخروج للشارع نلاحظ أن جدرانه امتلأت بمنشورات تحث الفتيات والأهل على الالتزام باللباس الديني ونرى دوريات الشرطة الدينية قد اصطفت لا لحماية المواطنين بل للحرص على تطبيق الشريعة، ندرك بعدها أن هؤلاء الشابات قد استبدلن سجنهم الأصغر بآخر كبير.
استخدمت مخرجة الفيلم والكاتبة المشاركة في السيناريو، رمزية اللباس لكي تطابق بين تضحيات المرأة خلال الحقبة الاستعمارية ومعركتها الشرسة في التسعينيات ضد التطرف والعنف. فعقب اغتيال ليندا، شقيقة نجمة الكبرى، بدم بارد على يد إحدى الشابات المتطرفات، ترفض نجمة الخنوع لتلك التضييقات وتقرر تنظيم عرض أزياء داخل السكن الجامعي، استوحت تصميماته من زي محلي تقليدي يسمى (الحايك)، كان نسوة الجزائر يلبسنه إبان حرب التحرير، لإخفاء المتفجرات التي كانت تستخدم لمقاومة المستعمر الفرنسي.

أبرزت "مدور" الآثار الناجمة عن المعارك المسلحة بين القوات النظامية والإسلامية في الشارع، لكنها أحكمت تركيزها على التهديدات المباشرة للمؤسسات التعليمية والتربوية من خلال سلسلة مشاهد تظهر فيها التضييقات التي تمارسها الطالبات المتشددات داخل المدينة الجامعية، بدءًا من حظر الغناء والترفيه، ثم التعدي على أحد أساتذة اللغة الفرنسية بحجة تدريسه لغة غير العربية (لغة الإسلام)، وصولاً إلى اقتحام غرفة نجمة وتمزيق تصاميمها المخصصة للحفل.
قدم النص أيضا صورة سلبية للشباب الجزائري، فالعنصر الذكوري لم يكن محوراً محركاً لأحداث الفيلم بل جاءت شخصياتهم مكملة لقصص هؤلاء الفتيات، بعضهم غارق في أحلام الهجرة ونزوات الحب العابرة والآخر سقط في براثن التطرف والجهل. لكن نجمة تأبي أن تستلم وترفض السفر للخارج برفقة حبيبها الذي فضل الرحيل هربا من قسوة الواقع وسوداويته.
حالة الانكسار والتشتت التي طالت نجمة لم تمنعها من مواصلة السير عكس التيار لاستكمال ما بدأته، وبعد مثابرة تنجح في استمالة مديرة السكن الجامعي لإقامة عرض الأزياء الذي طالما حلمت به، لكن العرض المبهر يتحول لكابوس دامي حين يقتحم مجموعة مسلحين متشددين المكان يقومون بقتل كل الفتيات الموجودات، عدا نجمة وعدد من صديقاتها اللاتي نجون بمعجزة. ينتهي الفيلم ولا تزال نجمة تحلم بغد أفضل، تتلمس طريق المستقبل المجهول وسط مخاض ولادة عسرة.