الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الرشوة فى مصر الفرعونية (2)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
استكمالاً لعرض البحث الشيق «أضواء على الرشوة فى مصر الفرعونية» للدكتور حسن السعدى أستاذ التاريخ والآثار المصرية والإسلامية بكلية الآداب (جامعة الإسكندرية).. والذى كشف معاناة المصرى القديم من الفساد الإدارى والرشوة.. بل ووصول الفساد إلى الكهنة والقضاة وكبار موظفى الدولة!.. فمثلا استعرض البحث شكوى القروى الفصيح من القضاة لممالأتهم للمعتدى على ممتلكاته، بل وامتدت الشكاوى لتطال كبيرهم الذى لم يتخذ موقفًا إيجابيًا حيال الواقعة، ليعتبرهم جميعا مرتشين، ووصفهم بالأوعية المدهنة.. والذى يعنى وفقا لرأى الباحثين «الإشارة إلى سهولة انزلاق الرشوة أو تفويت الشكوى».. ووصف كبير القضاة فى أحد النصوص قائلا: إن نصيبك فى بيتك، ومعدتك مملوءة وأعوانك يعطونك وأنت تأخذ، والناس يعطونك وتطلب المزيد؛ ألا تكون بذلك لصًا».. وقد أشارت المراسيم الملكية الإصلاحية إلى الرشوة وعقوبتها فى معرض الحديث عن الفساد مثل مرسوم (حور م حب) الذى وجه أوامر صارمة لقاضيى الوجهين والموظفين والكهنة بهذه الصيغة: «لاتقبل الهدية من أى فرد، إذ كيف سيتسنى لكم محاكمة الآخرين وبينكم من أجرم فى حق العدالة (ذاتها)، فمن يفعل ذلك منكم سوف يعاقب بالإعدام».. أما مرسوم (سيتى الثانى) فيحذر الكهنة تحديدًا وبكافة مراتبهم: «بأن من تسول له نفسه طلب أى شىء من غيره، أو قدم للكاهن الأكبر أى شىء، سوف يعزل من وظيفته وينقل للعمل اليدوى فى الحقول، ويطبق عليه القانون».. وهناك أمثلة مستقاة من وثائق الدعاوى، لتسهيل عمل غير قانونى أو التستر عليه.. مثل قبول العمال بمعبد (خنوم) الرشوة، من المراكبى المسئول عن سفينة المعبد، للتستر على إتلافه أجزاء من السفينة بالحرق.. كذلك لصوص معبد (عنقت) والذى اتضح أنهم عمال دير المدينة واعترفوا بالواقعة وبأنهم باعوا ما استولوا عليه، وأعطوا العمدة المسئول (رشوة) كى يطلق سراحهم.. أما أغرب أنواع الرشوة فكانت لكاهن حتى يسمح لشخص بدخول المقصورة الرئيسية والمثول أمام تمثال الإله للتعبد!!.. والدليل أيضا على انتشار الرشوة فى ذلك الوقت، هو محاولة.. كبار الموظفين فى سيرهم الذاتية التأكيد على براءتهم من شبهة الإرتشاء.. فمثلا (مونتو-وسر) من عهد سنوسرت الأول يطرى نفسه بالقول: «إنه لم يحابى أحدًا مقابل الرشوة».. كذلك (باحرى) من عهد حتشبسوت، أكد أنه لم يحصل على رشوة البتة..أما (رخ- مى رع) وزير تحوتمس الثالث فأكد أنه «لم يمنع العدل مقابل (رشوة)، ولم يصك أذنيه فى وجه فقير، لم يقبل الرشوة من أحد».. وأيضا الموظف (أمنمؤبى) من عهد مرنبتاح الذى وصف نفسه: «عاشق العدالة الذى لم يقبل هدية من مذنب».. وفى معرض الحديث عن علاقة الآلهة بالرشوة، نجد آمون وقد وصف فى إحدى الأدعية بأنه وزير الفقراء (الضعفاء) الذى لا يمكن استمالته بأخذ هدية أى (رشوة) من المذنب.. كما جاءت فى إحدى الصلوات الخاصة به: «أنه من يصغى للفقير (الضعيف) الذى لا يسانده أحد فى مجلس القضاء عندما يكون أعضاؤه قد أفسدوا بما تحصلوا عليه من الذهب والفضة والملابس (من خصمه الغنى بالطبع).. فيحول آمون نفسه إلى وزير ليخلص الفقير من ورطته.. وهو ما يدل على شيوع الفساد آنذاك بين القضاة!!.. وقد لاحظ الدكتور السعدى أن النصائح المشار إليها، نزعت للمثاليات الأخلاقية فى التعامل مع الرشوة.. فى حين أن المراسيم الملكية طرحت أسلوبًا عمليًا وصارمًا للعلاج.. وهو ما رآه أمرًا طبيعيًا يعكس الفارق بين قدرة المثقف على الفعل وقدرة صاحب السلطة.. كذلك لاحظ تنوع قيمة الرشوة (أطعمة، معادن نفيسة، ملابس، غزل...إلخ).. وكذا تنوع العقوبات، من مجرد الطرد من المنصب إلى الإعدام.. وأوضح أن المصرى القديم كانت الفروق واضحة لديه، بين ما يحصل عليه الشخص المسئول كرشوة، وبين ما يقدم له من هدايا فى المناسبات الرسمية، مثل ما قدمه رئيس العمال كهدية للوزير (نفرإمبت) وهى عبارة عن معولين من الفضة باسم جماعة العمال.. وكذا بعض ما يقدمه المسئول لمرؤسيه تعبيرًا عن امتنانه للحفاوة به.. أما أكثر ما استوقفنى فى هذا البحث، فكان أسوأ أنواع الرشوة! والتى تمثلت فى قبول نبلاء لرشوة المحتل كى يتنازلوا عن استقلال الوطن!.. وهو ما تبين من ردهم على (كامس)، والذى أكدوا فيه على تفضيلهم بقاء الأوضاع مع الغزاة الهكسوس على ما هى عليه، فى محاولة لإثنائه عن المضى قدمًا فى استكمال التحرير طالما على حد قولهم: «يحرثون الأرض من أجلنا، وقطعاننا ترعى فى مراعيهم بالدلتا والعلف يرسل لخنازيرنـا وقطعاننا لم يطرودنها خارج المراعى».. فبئس النبلاء الذين فقدوا الولاء، وباعوا الأرض والعرض!!.. ولا أجد أجمل من كلمات الدكتور/حسن السعدى فى ختام البحث: «إن الحديث عن المثالب الاجتماعية وأسلوب التعبير عنها قد تناوله المصرى فيما خلفه من نصوص دون أن يجد غضاضة فى طرحه.. إيمانًا منه بأن مكاشفة الذات واستئصال الداء هى البداية الحقيقية للانطلاقة الحضارية المستندة على ركيزتى العمل والخلق القويم.. فهلا استوعب الأحفاد درس الأجداد الشاخص لهم عبر الزمان... أرجو ذلك!!!».