العشق:
هل
كنت أنت الذي عشقتك المدينة أم أنه أحدا سواك؟!
تمشي على طرقاتها وحيدًا في الليل تتذكر
شمس أبيب (يوليو)، وباحة البيت القديم والنهر وترعة الإبراهيمية، والرفاق.. تنهر حلمًا
جاءك على غفلة.. وتنتظر الوداع الأخير.. لست أنت الذي حضر الليلة الأخيرة إذن.. كان
أحد سواك.. يطل الشيخ بلحيته البيضاء عبر باحة البيت يبكي.. لقد ماتت الجدة.. كانت
إذا جئت تجلسني على ساقيها تفتل لي من دقيق القمح والعسل ما يشبع نهمي إلى الحلوى..
وتحكي لي عنه وعن حصانه في الليل.. تلك العلاقة الذي ظلت تداعب مخيلتي.. كنت أتساءل
دائمًا؛ لماذا لا يمتطي أبي الحصان مثل جدي؟.. أسئلة البراءة الأولى التي تلاشت عندما
أجهش جدي بالبكاء.. كان أبي واقفًا تتدلى يداه وأنا ممسك بهما أركز عيني على مشهد الرجال
يحملون نعش جدتي وأهرول نحو حجرتها باكيا..
خمسون عامًا أو يزيد.. كنت في السادسة
من عمري.. وكان أبي في الواحدة والأربعين.. جلسنا ثلاثتنا في الليل بعد انصراف الجمع
ننظر إلى بعضنا البعض، وفي المساء ارتميت في حضن أمي وغفوت.
النهر:
على حافة السين، باريس تفتح ذراعيها لي
كل مساء، تستقبلني ضاحكة، وتسألني:
أين كنت أيها الغريب؟ كنت أجلس على المقهى،
يا سيدتي، مع بعض الأصدقاء.
تسألني مندهشة: أما زلت ترتاد المقاهي؟!
بعد هذا العمر، يا سيدتي، لم يبق لي سوى
المقهى!
تضحك ثم تمضي شاخصة.
في مساء باريس تكثر الأمنيات كما يكثر
الحزن.
ينتابني غيظ شديد، فالأجواء ملهمة وأنا
عاجز عن الكتابة، لا شيء يقهرني سوى عجزي عن الكتابة حين تكون الأبواب مشرعة والأجواء
مواتية والخريف يمزق الآفاق.
تلك ابنتي الصغرى تهتف من بعيد لتكتب عن
طفولتنا معك، عن شراء اللعب وسماع الأغنيات والسفر عبر البحار.
لماذا إذن لا تستبيح المسافات بين الفصول
وتكتب عن انهمار المطر وانبلاج النهار وصمت الحقول ووشوشة العنب.
قال لها الأعرابي يوما: صبّي ففي كل عام
ينضج العنب.
لم تفهم الفتاة الدرس، لم تع المراد، لم
تدر ماذا قال وما لم يقل.
الطرقات مزدحمة بالمارة في الشانزليزيه،
كل النظرات مسرعة، لا أحد يحدق في أحد، في هذه المدينة سواي.
ربما كنت أفتش عن وجه يشاركني بكاي.
عن عهر في عيون تجيد الغزل، ربما كنت أبحث
عن نهار على ضفة السين.
في مساءات باريس كل شيء واضح .
الطرقات والمحلات والأزياء والورود والناي،
كل شيء واضح، كالنهار.
يأتي عازف الناي إليّ مبتسمًا ينفخ قطعة
أخرى.
لا شيء يبقى من ذكريات السنين الطويلة سواه، يقول لي؛ ويشير إلى الناي ويستمر في العزف.
يتساءل في دهشة مصنوعة؛ أين ذهب الكبار؟! لا ألتفت لسؤاله، يباغتني بذكر أسماء: صباح ووردة وعبدالحليم ووديع الصافي، ثم يردف: كانوا هنا وكنت معهم أعزف أحلى الألحان.. ثم يمضي.
هنالك أدرك أن المسافات ذبلت وأن المدينة لم تعد تحتمل حزني وأنه لا بد من عناق.
أبحث عنها في كل التصاوير التي تتراءى أمامي، في المحلات، في المقاهي، أسافر خلفها أفتش كل الفنادق، علني أجد مجدلية أخرى تناطحني العذاب.
مَن كان منكم بلا خطيئة فليرجمني إذن.
وأظل أحدق وحدي في نجوم باريس وكأنني أراها.. وما أرى شيئًا سواها.
الحياة:
على هذه الأرض ما يستحق الحياة، دعوات أمي، عظام أبي في تربته، صرخات أمهات الشهداء، وهن يطالبن بالثأر، عشق البنات الجميلات لكاب الجنود، ترنيمة عشق في أوبرا إسماعيل باشا، كورنيش الإسكندرية، زفة زار قديمة على أعتاب آل البيت، حنين المجذوبين، دموع العجائز في جنائز الأحباب، شوارع قريتنا الضيقة، وسط البلد، مقهى ريش، نادي السيارات، الجريون، ومكتبة مدبولي.
شوارع غرقت في دموعنا وحنيننا وفرحنا وحزننا، لثلاثة عقود، الكنيسة المرقسية، والجامع الأزهر، ورق البردي، والأهرامات، ورأس أبو الهول الصامد منذ آلاف السنين في وجه المِحن، تراتيل مصطفى إسماعيل، وعبدالباسط عبدالصمد، والمنشاوي ومحمد رفعت، السيرة العطرة للبابا كيرلس، والشيخ عبدالغني النابلسي ومحمد عبده، والإمام عبدالحليم محمود.
عشقنا لرمالها، وخضرتها، وريحتها، وهوائها، ومائها، قراها ومدنها، تلك الحقيقة الأبدية الساكنة في الحروف الثلاثة "مصر"، وثلاثية العشق والنهر والحياة.