الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الرشوة في مصر الفرعونية (1)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
استشرت في مجتمعاتنا حالات فساد نتعجب منها!.. فكل فترة وجيزة تفاجئنا الأخبار بإلقاء القبض على مسئول كبير بتهمة الرشوة!.. مما يؤكد أن الفساد تغلغل في الكثير من النفوس المريضة التى لا ترتدع، والتى ربما ما زالت ترتع فسادا في مؤسساتنا ووزاراتنا دون أن تُكتشف بعد.. ولكن مع الجهود الحثيثة التى تبذلها الرقابة الإدارية، نتأكد أن الدولة جادة في مكافحة الفساد، ومحاسبة مرتكبيه أيًا كانت مناصبهم.. ورغم ما نستشعره من إحباط نتيجة للفساد الذى نلمسه أحيانا، ولا نملك تغييره، وشعورنا أن الأخلاق وصلت إلى أدنى مستوياتها في ذلك العصر، ونترحم على الماضى!.. إلا أننا حين نقرأ التاريخ، سنتأكد أن الفساد في المجتمع لم يختلف كثيرا من عصر إلى عصر!.. وربما كانت رذيلة الرشوة التى نعانى منها الآن، امتدادا لأصولها المتجذرة في المجتمع المصرى!.. فالحضارة المصرية القديمة التى دائما ما تبهرنا بما قدمته للبشرية، حيث كانت منبع العلوم والفنون، وأول من عرفت التوحيد، وعلمت الإنسانية المبادئ والأخلاق.. عانت أيضا من الفساد والرشوة!.. فمن حسن حظى، أتيحت لى فرصة قراءة بحث شيق بعنوان» أضواء على الرشوة في مصر الفرعونية» للأستاذ الدكتور حسن محيى الدين السعدى أستاذ التاريخ والآثار المصرية والإسلامية بكلية الآداب (جامعة الإسكندرية).. والذى استهل البحث بتوضيحه أن الشخصية السوية للمجتمعات، مثلها مثل الأفراد، تنطوى على عناصر إيجابية وسلبية متوازنة.. وبالتالى فلا عجب أن نجد في السلوك البشرى في مصر القديمة جوانب سلبية.. وقد كشف البحث عن أن الرشوة كانت أخطر المفاسد وأعظمها أثرا في الإدارة المصرية القديمة، رغم أنها لم تحظ بإشارات نصية مباشرة تجعل رصدها بالأمر السهل، ولكن اعتمد البحث على العديد من النصائح والمراسيم، بالإضافة إلى ما خلفه كبار الموظفين في سيرهم الذاتية ووثائق عصرهم، وكذلك شكاوى القروى الفصيح الشهيرة في عصر الانتقال الأول.. فنرى الإشارات المباشرة للرشوة وطبيعتها في النصائح الخاصة الموجهة لكل من: «مريكارع».. و«إمنمؤبى».. و«خيتى بن دوا-إف».. فالأول في نصحه لابنه ملك المستقبل، يؤكد على أنه لكى يعمل موظفوه وفقًا للقانون عليه إشباعهم، لأن غناهم سيجعلهم لا يستشعرون الحاجة، في حين أن الفقير منهم سوف يميل لمن يدفع له «أى يرشوه».. وهنا نجد أن التعبير عن الرشوة جاء من فعل الدفع أو إعطاء مقابل.. أما الثانى فالمتحدث يقول: «لا تقبل الهدية من الرجل القوى لتحرم الضعيف من حقه لأجله، لأن العدالة هدية كبرى من الله».. ورغم استخدام كلمة هدية مرتين، فقد جاءت الأولى للدلالة على الرشوة والأخرى على النعمة، بحيث يصبح المعول الأساسى في الاستخدام السياق النصى.. وفى المثال الثالث الخاص «بخيتى» يشير إلى عذاب مهنة النساج الذى يعمل في ورشته تحت الأرض، وعندما لا ينسج الكمية المطلوبة منه يضرب، ويجد نفسه مضطرًا لإعطاء «رشوة» لحارسه كى يمكنه من رؤية النور.. وهو ما يدل على أن الرشوة كانت موجودة، وإن كانت مستهجنة.. ولكن الأدلة الأكبر لوجود الرشوة كمظهر للفساد الإدارى، كانت من خلال التحقيقات في الوقائع التى حدثت فعليا.. فقد وُجد في العديد من الوثائق ما كشفته التحقيقات في قضية سرقات المقابر، وكذا في قضايا بمجتمع دير المدينة.. ومن أشهر القضايا في هذا الصدد، ما واجهه «با-نب» كبير العمال الذى شغل المنصب لأكثر من ثلاثين عامًا، من نهاية عهد «رعمسيس الثانى» وحتى العام السابع «لرعمسيس الثالث»، وإن بلغت ذروة مفاسده في عهد «سيتى الثانى» حيث كان يدعمه الوزير «بارع- م- حاب».. فقد تضمنت عريضة الدعوى التى قدمها خصمه.. وهو ابن لرئيس العمال الذى خلفه «با- نب» أنه قدم للوزير خمسة من الخدم من أجل اغتصاب المنصب، وتجاوز صاحبى الحق الأصليين، مقدم الدعوى وأخيه الأكبر الذى شهد موته غموضًا غير مبرر.. وكان من جرائمه أيضا سرقة أعمدة لمقبرته، تهديد العمال غير المتواطئين معه بالقتل، إقامة علاقة غير شرعية مع 3 نساء من القرية!.. وقد كررت عريضة الدعوى ذات الفعل في الحديث عن رشوة أخرى، قدمها «با- نب» أيضًا للكاتب «قن-حر-خبش-إف» في سبيل تسهيله فتح وسرقة ثلاث مقابر.. والكاتب آنذاك «وظيفة عليا في الدولة» قد شغلها المتهم لما يربو عن خمسة عقود «نحو 54 عاما».. ويبدو أنه كان مستمرءًا الوضع، لا يرفض أى رشوة مهما تدنت قيمتها!!.. حيث سجلت وثيقة «لمرنبتاح» قبوله رشوة للتستر على تجاوزات العامل «رع- حوتب» وتغيبه عن العمل، عبارة عن قطعة قماش طولها 15 ذراعًا، وثلاث لفائف من خيوط الغزل، فضلا عن قيام العامل بحلق شعره مجانًا!! وقد عوقب مثلث الفساد المكون من الوزير والكاتب ورئيس العمال بعقوبات شديدة بالطرد من الوظيفة ومن قرية دير المدينة ذاتها.. ولكن هذا ما يؤكد دناءة بعض المسئولين حتى في مصر الفرعونية!!! وللحديث بقية.. حول رشوة الكهنة والقضاة وكبار الموظفين في الدولة!