على مر الزمان والأجيال، سطر التاريخ بحروفٍ من نور أسماء روائيين ومبدعين، أضاءوا حياتنا وعمرنا وقيمنا.. الكاتب المبدع مصطفى بيومى بدأ مشروعًا طموحًا للكتابة عن هؤلاء العظماء، وأنجز منه ثلاثين فصلًا.. يتضمن كل فصل تحليلًا لشخصية روائية واحدة من إبداع كتيبة الروائيين المصريين، من طه حسين ومحمد حسين هيكل وعبدالقادر المازنى إلى جيل الشباب الموهوب المتوهج، مرورا بعشرات الكتاب الجديرين بالاهتمام والدراسة.
عبر هذه القراءات، يقترب مصطفى بيومى من الحياة المصرية في مناحيها المختلفة، انطلاقًا من تساؤله المشروع: «وهل مثل الرواية في قدرتها على تقديم الشهادة الشاملة التى يمكن من خلالها التطلع إلى المستقبل الأفضل الذى ننشده؟». «البوابة» تحتفى بكاتبنا الكبير وتنشر صباح يومى الثلاثاء والسبت من كل أسبوع، فصلا من الدراسة القيمة، لتكون شاهدًا على عصور زاخرة في عمق الأدب المصرى وقوته الناعمة.
أمين يوسف غراب.. شفعات الخربوطلي من رواية «شباب امرأة»
إمام بلتاجى حسين، الأزهرى القروى النازح إلى القاهرة لاستكمال دراسته، ليس حالة استثنائية في تجربة المواجهة الصعبة لمخاطر السقوط في هاوية المغريات والإغواء الجنسى. طفولة الشاب الفقير تجمع بين المعاناة المادية وسعادة الحب البرىء الذى يجمعه بسلوى، ابنة الأستاذ الشرنوبى، الناظر المحبوب الذى يحظى بوظيفة مرموقة في وزارة المعارف. يموت بلتاجى قبل أن يسعد بنجاح ابنه الوحيد، ويرتحل إمام ليظفر بالشهادة التى تؤهله لمستقبل وظيفى آمن. لا شىء يتسلح به في الرحلة الشاقة إلا ثلاثة جنيهات، وتميمة أبيه الراحل لجلب الرزق، وخطاب توصية للأستاذ الشرنوبى بغية أن يكون معينا وداعما للشاب المتدين الطموح.
المهمة الأولى لإمام هى البحث عن غرفة زهيدة الأجر، توفيرا للقروش الخمسة التى يدفعها يوميا نظير مبيته في لوكاندة «المدينة المنورة»، وهو مبلغ ضخم يفوق إمكاناته المتواضعة، ويأتى الفرج بواسطة خادم اللوكاندة محمدين، الذى يهديه إلى غرفة في بيت المعلمة شفعات الخربوطلي، في زقاق الجناينية المتفرع من حارة درب المسرات في حى حوش الشرقاوى بباب الخلق.
ظهور شفعات نقطة تحول في حياة إمام، وما رواية أمين يوسف غراب إلا الرصد الفنى والتحليل العميق لتطور العلاقة بين الشاب الخام الساذج والمرأة ذات التاريخ الحافل بالتجارب والخبرات.
البيت الذى تملكه شفعات وتقيم في إحدى حجراته، موغل في القدم، والمعلمة صاحبة «السيرجة» امرأة ذات جمال شعبى صارخ صاخب، عصبية المزاج شرسة الطباع، تعينها الثروة الموروثة عن زوجها على سيادة الحارة وفرض إرادتها على الجميع. لا تتزوج بعد ترملها، وتقنع بمساعدة «الأستاذ» حسبو، الكهل الستينى مدمن الخمر، في إدارة أعمالها. منذ البدء، يتجلى خضوع الرجل وإذعانه واستسلامه للمرأة الحديدية، التى لا تتورع عن السخرية منه وتوبيخه في قسوة وغلظة، ولا بادرة احتجاج من ناحيته على ما يلحق به من إهانة.
شفعات نموذج متكامل للنزعة الحسية والتفنن في الإغواء، ويزداد توحشها في العلاقة مع إمام بالنظر إلى غياب التكافؤ والندية بين امرأة خبيرة في منتصف العقد الرابع من عمرها وشاب قروى لم يغادر عامه الثامن عشر. يتصدى قدر طاقته المحدودة لحصارها متجنبا السقوط في براثنها، ثم يستسلم ويُقاد إلى ما تريده عاجزا عن المقاومة، وصولا إلى التمرد ومحاولة استعادة هويته الضائعة.
البداية صدامية عنيفة لا تنبئ بما ستؤول إليه العلاقة من حميمية، ذلك أن حسبو يؤجر الغرفة لإمام في غياب شفعات، وعند عودتها ترفض وتصر على طرد المستأجر قبل أن تراه:«لا بد أن تطرده الآن، أن تلقى به الليلة إلى الخارج.. أنا لا أريد أن أجلب المتاعب إلى نفسي.. قلت لك ألف مرة إن المجاورين وطلاب العلم لا يجدون قوت يومهم، فكيف بهم يدفعون الإيجار. ألقِ به إلى الحارة الليلة.. الآن.. وإلا ألقيت بك أنت.. أسامع؟».
ثورتها هذه لا تتجه إلى إمام الذى لا تعرفه، بل إلى الطائفة التى ينتمى إليها ولا تدعو إلى الثقة في الالتزام بدفع الإيجار، لكن الموقف السلبى العنيف يتغير جذريا بعد سقوط الحمار بهلول في البئر. يهرول إمام لإنقاذ الحمار كاشفا عن قوة جسدية خارقة، جديرة بإعجاب امرأة مثل شفعات:«ووقفت المعلمة مبهورة جاحظة العينين تنظر إلى كتف الشاب العريضة الضخمة التى تحمل الحمار وذراعه المفتولة القوية، التى تلتف حوله، ثم تنظر إلى جسده الفارع القوى وهو يسير بالحمار حتى بلغ به فناء الدهليز ووضعه على الأرض بين الحياة والموت».
تنم نظراتها الشبقة عن شخصيتها الشهوانية وافتتانها بالفحولة، ولا شك أن رغبتها في الاستحواذ على إمام تبدأ منذ اللقاء الأول الذى يدفعها إلى التراجع عن قرار طرده، وبعد ساعات يتجدد الصدام بفعل الضجيج المترتب على الاستيقاظ المبكر للطالب المتدين المجتهد، حيث الوضوء بالقبقاب وصوت وابور الجاز لإعداد الشاى والقراءة بصوت مرتفع في ألفية ابن مالك. تقتحم غرفته متنمرة هائجة شبه عارية، وتنهال عليه بالشتائم القاسية:«أنت تظن نفسك في ميضة.. حنفية تفتح طول الليل.. قبقاب يدق على البلاط كما تدق أرجل البغال.. وابور جاز يُشعل بصوت مزعج.. تقرأ بصوت كصوت الحمير، وما تعيده تزيده كفقهاء الجبانة..حرف يؤم في قلبك وكلام يغم في عينك، وعين الذين خلفوك».
تجمع شفعات بين الأنوثة الطاغية والجرأة في الاقتحام وسلاطة اللسان، وهى عدوانية تندفع إلى العراك قبل أن تتراجع جراء الإعجاب مجددا بالذراع القوية المتحجرة والكتف الدقيقة الصلبة التى تشبه الفولاذ. عندئذ يظهر ملمح جديد في شخصيتها، فهى داهية ذات حيل بارعة في التحول وتمثيل دور الضحية المسكينة المرهقة متوترة الأعصاب المثقلة بالأعباء والهموم، وما أسهل استجابة الشاب الساذج للوجه الجديد الذى تعلن عنه: «أنا امرأة شقية، أنا أشقى امرأة قُدر لها أن تعيش في هذه الدنيا».
شخصية مراوغة متعددة الوجوه، والوصول إلى الهدف الذى ترومه يدفعها إلى الاستعانة بما تراه مناسبا من أسلحتها المتناقضة. في المقابل، يتسم الأزهرى الوافد من أعماق الريف بقدر كبير من السذاجة وسرعة التصديق بلا تمحيص، كما يتجلى في حواره مع حسبو. يقص عليه وقائع المشاجرة التى تنتهى بالمصالحة، ثم يقول:
- إنها فعلا سيدة طيبة القلب إلى حد كبير حتى إننى وضعتها في منزلة أمى.
- أمك؟!.
نطقها الأستاذ حسبو وهو يتلفت نحوه كمن يريد أن يستغيث، ثم أسرع إلى الشاب وأمسك بذراعه، وسحبه إلى ركن قصيّ بعيد عن البابين حتى لا يسمعه أحد، ثم همس في أذنه وهو ما زال يتلفت نحوه في خوف شديد:
- إنك مغفل.
ولم يدع الشاب يقول شيئا لأنه استطرد:
- إنها أفعى، ثعبان كبير، حشرة مؤذية، سم بطيء.. مرض خبيث!».
تقييم إمام لشخصية شفعات دليل على البراءة والغفلة، والنظر إليها كأم يذهل حسبو فلا يصدق ما يسمعه. الفارق الكبير في العمر لا يعنى أنها في مقام الأم، والقراءة التى يقدمها حسبو تكشف عن إدراكه لخطورة شرها، فهى أفعى وثعبان وحشرة وسم ومرض، لكن الرجل يستمتع بتبعيته وانسحاقه، وغاية ما يؤمله أن ينجو إمام ولا ينتهى به الأمر نسخة جديدة من السكير الضائع المهزوم.
انتصار شفعات على إمام ميسور بفضل دهائها وبراعتها في التخطيط وتسلحها بالصبر وتجنب الاندفاع غير المحسوب، فهى تريده وتصمم على الظفر به: «وعندها من الأسلحة التى زودتها بها الطبيعة ما يجعلها تظفر دائما بما تريد».
اقتناء إمام في حظيرة أنوثتها هو الهدف الذى تسعى إليه، ومن البدهى أن تختلف تفاصيل المغامرة معه عن المغامرات السابقة. في عمر أولادها لو أنها أنجبت، وشبابه الغض يثيرها. اقترابها من نهاية الشباب والوقوف على عتبات الذبول يضفى على علاقتها معه مذاقا مختلفا، فهى تشتهيه بكل ما في أعماقها من حيوية وتشبث بمسرات الحياة.
لا يعارض إمام رغبتها في اصطحابه لزيارة قبر زوجها، وفى المقابر تلتقى ببعض صديقاتها اللاتى يلمنها لأنها تنصرف عن الزواج:«وتقضى على شبابها بهذه الحياة الجافة التى تحياها».
الزهد في الزواج مبرر بنزعتها الاستقلالية وثرائها وشعورها الطاغى بالقوة التى تغنيها عن الاحتياج إلى رجل، والسؤال الذى يطرح نفسه هنا: ماذا عن الحياة الجنسية لشفعات خلال السنوات السبع بعد ترملها؟. امرأة في مثل عنفوانها واشتعال شهوتها لا ترضى بحياة خالية من الرجال، لكن الرواية لا تتطرق إلى هذا الجانب، فهل من المنطقى أن يكون إمام هو الرجل الأول الذى تسعى إليه؟.
ما يزعج شفعات في زيارتها للمقابر مقولة لواحدة من صويحباتها، تعارض التيار العام وتؤيد انصرافها عن الزواج، متوهمة أن الشاب الذى يصحبها هو ابنها:«ويكفيك سعادة أن يصبح ابنك هكذا ولو كان لى ابن مثله لكفانى وأسعدنى أن أترمل عليه إلى الأبد».
واكفهر وجهها فجأة، وزاده عبوسا أن بقية النسوة نسين ما كن يتحدثن فيه، وأيدن هذا القول، ومددن أيديهن إلى إمام يصافحنه ويشدن برجولته ويوصينه خيرا بأمه هذه التى جعلت منه رجلا.
الموقف العفوى تأكيد على الفارق الكبير في العمر بين شفعات وإمام، لكن المرأة تستمر في خطتها بلا تغيير. تطول النزهة التى تجمعهما، وتتضمن الغذاء والتجول في الشوارع ودخول السينما. يفر مهرولا من إغرائها في الحنطور، ويشرع الفتى الذى يوجعه ضميره الدينى في اتخاذ الإجراءات للبحث عن مسكن بديل، ويجد في زيارة سلوى وآل الشرنوبى ما يحقق له بعض التوازن الضائع، لكنه يعود إلى غرفة بيت شفعات فتخور عزيمته ويستسلم لإغوائها، وتبدأ مرحلة جديدة في العلاقة متعددة الفصول.
يسقط إمام في براثن المرأة المتمكنة، وتنتعش شفعات فتستعيد نضارتها وتجدد شبابها المهدد بالذبول والجفاف. تتراجع التجاعيد والأخاديد المنذرة باقتراب خريف العمر، ويمتد التغيير إلى إمام بطبيعة الحال، فإذا به شاب وسيم أنيق، يتخلى عن زيه الأزهرى ليرتدى البذلة الفخمة والطربوش الأحمر الفاقع، وتنبعث منه رائحة عطرة. يغيب حبه البرىء لسلوى، ويتوقف عن زيارة أسرة الشرنوبي، لكن استمرار العلاقة بلا توتر وقلق ليس ممكنا. تنبىء الشواهد جميعا على أن الصفاء والانسجام والتناغم مؤقت، لأنه نابع من الشهوة الجنسية وحدها، والمصير الذى يؤول إليه حسبو يؤرق الشاب الذى يفيق تدريجيا ويعيد النظر في المغامرة، ويبدأ في التراجع والانسحاب، فهل يقوى؟.
.....................
يختفى إمام وتطارده شفعات بشراسة، وتصطحبه من أمام باب المدرسة لتعود به إلى البيت الذى لم يعد يشعر بالرغبة في العودة إليه. يتصاعد الحوار بينهما وصولا إلى الصدام، ولكل منهما منطقه الذى يراه وجيها متماسكا:
- إنى أبغضك.. أكرهك.. أحتقرك.. لن ترى وجهى بعد اليوم.
فقالت ضاحكة في ثقة:
- هل هذا في يدك؟
- في يد من إذن؟
- حقوقى التى عندك، مالى الذى أنفقته عليك.. عرضى الذى أبحته لك..
- كل ذلك دفعت ثمنه غاليا.
- أى ثمن دفعت؟
- دينى الذى هجرته، خلقى الذى فقدته، شرفى الذى أهدرته و..
وصمت، فقالت:
- وماذا؟ تكلم، قل كل شىء..
- وأخيرا شبابي، شبابى الذى فقدته على مذبح هذا الجسد، الذى هو ملك لكل شاب..
فقالت ضاحكة في غيظ:
- أهكذا قال لك حسبو؟
- لم يقل حسبو شيئا، ولكن ثقى أننى لن أكون حسبو آخر، سأنصرف الآن، سأعود بالحمال الذى سينقل لى متاعى من هذه البؤرة.
إعلانه الصريح العنيف عن الكراهية والاحتقار لا ينفى أنه مدين لها بالمال الذى تنفقه والعطاء الجسدى الذى لا تبخل به، أما الثمن الذى يدفعه من الدين المهجور والأخلاق المنبوذة والشرف المهدر والشباب الذى ينفق منه ببذخ سفيه، فلا يغير حقيقة الصفقة المتوازنة بمعرفته ورضاه. عندما تنكشف الأوراق على هذا النحو، تبدو استعادة العلاقة وهما لا يمكن أن تسعى إليه امرأة تعتز بكبريائها وكرامتها، لكن الأمر عند شفعات وثيق الصلة بالغيرة التى تعذبها من سلوى، الشابة الجميلة التى تتهيأ لبداية رحلتها مع الحياة، مقابل المعلمة التى تقترب من نهاية الرحلة:
«- أتظن أننى بعد أن أطعمتك وكسوتك وجعلت منك رجلا، أدعك تفلت من يدى لتذهب إلى تلك الفتاة التى شغفتك حبا، تلك التلميذة التى تفضلها عليّ؟!».
الغيرة المتطرفة تتوافق مع شخصية شفعات المسرفة في العصبية وشهوة الاستحواذ والسيطرة والولع بفرض إرادتها وممارسة السيادة. التفريط في إمام، وهو جزء من ممتلكاتها، موجع مؤلم مهين، والانهيار الذى يصل بها إلى البكاء والتوسل سلاح جديد لا تتورع عن استخدامه للحيلولة دون فقده:«وهم أن يخرج، بيد أنها زحفت سريعا على الأرض، وأمسكت بقدميه، وانهالت عليهما تقبلهما بدموعها المنسابة، وشفتيها المرتعشتين وهى تنتحب مولولة في صوت مختنق متقطع: إننى أحبك، إننى أحبك».
مع إصرار إمام على إنهاء العلاقة والتخلص من عشيقته، تبدو هزيمة شفعات حتمية، لكن القدر يتدخل فيتغير المسار. تصل أم إمام مريضة تحتاج إلى جراحة عاجلة باهظة التكاليف، ويرضى الابن المأزوم بالصفقة الجديدة مرغما: الزواج مقابل دعمها المادى لإنقاذ الأم. زواج قصير ينتهى بموت أم إمام، وتلحق بها شفعات قتيلة على يدى حسبو. تصيبه لوثة فينقض عليها بزجاجة الخمر الفارغة، ولا يتركها إلا جثة هامدة.
يختفى إمام من مشهد النهاية الكابوسي، وتصل شفعات إلى محطة النهاية التى تتوج حياة حافلة بالقوة والشهوة وطموح التشبث المستحيل بشباب لا نهاية له ولا ذبول.