الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة لايت

مصطفى بيومي يكتب: عباقرة الظل.. نعيمة الصغير.. سلطة وسلطان في الفن

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لا شك عندى أن التمثيل أمام الموهوبة القديرة نعيمة الصغير عبء ثقيل، فهى تشبه قطارا خارق السرعة يدهس عند انطلاقة كل ما يواجهه، ولا شك عندى أيضا أن الكاميرا تحبها وتنحاز إليها ولا ترى أحدا سواها. طلتها كفيلة بجذب الأنظار والقلوب، فإن تكلمت أو تهيأت للكلام يطغى حضورها فتسيطر وتهيمن. عملية الإزاحة هذه تمنح الرائعة نعيمة سلطة وسلطانا، لكنها سخية معطاءة لا تضن على المحيطين بها بحق المشاركة في إطار التعاون القائم على الحب والبساطة، واللامبالاة أحيانا.
الجميلة نعيمة طاقة كوميدية مذهلة فاحشة الثراء، ومن علامات تفردها أنها لا تحتاج إلى الموقف المكتوب لتبدع وتتألق، فهى تصنعه بمجرد ظهورها كأنها عبدالفتاح القصري. ملامحها الشعبية الغليظة، بدانتها اللافتة التى تخلو من التناغم، صوتها الأجش مثل رجل عنيف؛ هذه جميعا مفردات تتحالف لتشكل ممثلة فريدة لا تشبه أحدا من سابقيها.


الشر عندها ذو مذاق مختلف، تحيط به إطارات المرح التى تكسر حدته، وتوحى بأنه مؤقت لن يدوم، أو أنه عمل ترتزق منه ولا تجد له بديلا.
صديقة اللصوص معذبة أطفال الشوارع والقوادة الماكرة والأم المستهترة، الزوجة المسيطرة والحماة الشرسة، التابعة شبه الصديقة والخاطبة، الطيبة أحيانا بلا ذرة من السواد؛ هذه وجوه نعيمة الصغير.
سيدة في «المشبوه»، ١٩٨١، أم اللصوص وصديقتهم وصاحبة الفضل في تصريف بضائعهم المسروقة. المكان الذى تقيم فيه أشبه بالمخزن الفسيح، وإليه يلجأ بيومى وحمودة وماهر، سعيد صالح وفؤاد أحمد وعادل إمام، بعد عمليتهم التى تتعرض لتدخل مفاجئ من الشرطة. ليس أدل على وضعية سيدة من الحوار الذى تتبادله مع بيومي:
«- أول ما شفت في العملية واحدة ست اتشاءمت.. ابعد عن النسوان وانت تكسب.
- ولما انت بتتشاءم من النسوان بتتعامل معايا ليه وتبيعلى المسروقات؟
- وانتِ نسوان يا جدع؟».
امرأة تفوق الرجال في القوة والصلابة والشهامة، ونظراتها للمصاب المتألم ماهر تكشف عن عاطفة صادقة لا شأن لها بالعمل وحساباته المادية، وهى من ناحية أخرى تحترم القواعد والأعراف التى تحكم عالم اللصوصية. عادلة بمعايير المهنة التى تنتمى إليها، ويتجلى حبها لرفاق العمل في الحس الإنسانى الذى تتعامل به مع ماهر. تقرضه عند الحاجة، وترعى قصة حبه مع بطة، سعاد حسني. كم هى رائعة نظرات التعاطف التى تتأمل بها لقاء الحبيبين، كأنها الأم الروحية.
تدخن الشيشة بشراهة، ولا يعرف الخوف طريقه إليها عند اعتقالها مع المشبوهين. صحيح أن مهنتها كريهة مرذولة بالمعايير الأخلاقية، لكن المشاهد لا يكرهها بقدر مايتعاطف معها ويلتمس الأعذار، وما أكثر اللصوص الشعبيين الظرفاء الذين يحظون بالحب والاحترام في المجتمع المصري.


يختلف الموقف تجاه «الكاتعة» في «العفاريت»، ١٩٩٠، ذلك أن التسامح النسبى مع اللصوص التقليديين لا متسع له مع خاطفى الأطفال الأبرياء ومستغليهم. امرأة عنيفة قاسية، شرسة بلا قلب في قهر ضحاياها الصغار. لا تتورع عن الزج بهم في ساحة ترويج المخدرات، فضلا عن السرقة والنشل والتسول. الجديد في أداء نعيمة، وهى على مشارف الستين، ظهور وجهها الأنثوى الرقيق الناعم، أو الذى يسعى ليكون رقيقا ناعما، عبر العلاقة التى تجمعها مع «المعلم» الشاب الذى يصغرها كثيرا. من البدهى أن تكون صاحبة المبادرة، ومن المنطقى ألا يستجيب!.
ليست امرأة بالمعنى الشائع للكلمة، وما أدق تعبير بيومى في توصيفها:«وانتِ نسوان يا جدع!».
شر إجرامى من طراز مختلف تقدمه الممثلة القديرة في «سونيا والمجنون»، ١٩٧٧، و«شفيقة ومتولي»، ١٩٧٨.
عدلات في «سونيا والمجنون» قوادة محترفة ماكرة، تخطط بإتقان ودأب للإيقاع بسونيا في براثنها، وتراهن على الفقر المدقع الذى يحول دون المقاومة الجادة والنجاة من الاستجابة لنداهة الدعارة. نبرات صوتها ونظرات عينيها وإيقاع حركتها، مفردات متجانسة تؤكد احترافها للمهنة سيئة السمعة، والأدوات نفسها تستثمرها «فلة» في «شفيقة ومتولى». المشترك الراسخ في أداء نعيمة، مع الفوارق الشاسعة بين الفيلمين، يتمثل في غياب المباشرة الفجة الرخيصة، والنجاح في عمل القوادتين رهين بالضغوط النفسية التى لا تخيب.
الآثار السلبية للشر تطول الغرباء في أعمال السرقة واستغلال الأطفال والدعارة، أما الأم والزوجة والحماة فضحاياها الشراسة العدوانية من الأقربين: الابنة والزوج وزوج الابنة.
أم إحسان شحاتة في «القاهرة ٣٠»، ١٩٦٦، نموذج للأم الرديئة غير المؤتمنة على ابنتها، فهى من تزين لها السقوط وتشجعها على التفريط الأخلاقى لأسباب مادية خالصة. تاريخها قبل الزواج والأمومة يفسر سلوكها غير السوي، والزوج المستهتر، توفيق الدقن، يدعم الانهيار ويسعى إليه حتى ينجح في إفساد ابنته ويجنى الثمار. زواج إحسان، سعاد حسني، من محجوب، حمدى أحمد، صفقة شكلية لإضفاء الشرعية الزائفة على علاقة العشق التى تجمع العروس مع قاسم بك، أحمد مظهر. الجميع مدانون جديرون بالاحتقار والازدراء، والمثير للدهشة بحق ما تقوله أم إحسان بعد إتمام الزيجة التى لا صلة لها بالزواج: «الحمد لله إنى عشت وشفتك يا إحسان يا بنتى مستورة في بيت العدل».
كلمات ترددها في حماس ينبئ بالجدية والصدق، وأداء نعيمة يوحى بأنها تصدق ما تقوله عن «الستر» و«بيت العدل». ليست أمّا سوية كالأمهات، واندماجها في الكذب على هذا النحو يؤكد أنها قوادة بارعة كما هو الحال في فيلمين سابقين.


العلاقة مع الزوج شحاتة متكافئة متوازنة، فكلاهما سيئ يليق بالآخر، وتتألق نعيمة مع غياب الندية في العلاقة الزوجية. الزوجة القوية المتغطرسة ساحة توهجها، فهى عندئذ «الرجل» الذى يقود ويتحكم. نجد هذا التوجه في عدد غير قليل من الأفلام، ومنها: «لا تسألنى من أنا»، ١٩٨٤، «البيه البواب» و«خليل بعد التعديل»، ١٩٨٧.
أزواجها هؤلاء مختلفون موزعون بين الإذعان الكامل وإدمان الخمر للتعايش والتبعية المعتدلة، ولا شيء يجسد الحضور الطاغى لنعيمة مثل المشهد الذى يجمعها بالزوج المارق محمد رضا في «البيه البواب». تبدو رجلا عملاقا آمرا واثقا من قوته غير المحدودة، ويرتعش الزوج ذو الجسد الضخم كأنه طفل يرتعش. في العينين ولغة الجسد قوة وسلطة، ومن يقاوم طوفانها هذا؟.
في «الشقة من حق الزوجة»، ١٩٨٥، تتحكم نظلة في زوجها عبدالمقصود، عبد الله فرغلي، وابنتها كريمة، معالى زايد، وتسعى إلى الهيمنة على زوج ابنتها سمير، محمود عبدالعزيز، وعندئذ يفضى سلوكها العدوانى المتسلط إلى الصدام والطلاق وصناعة مشاهد كوميدية لا تُنسى، قوامها التلقائية والعفوية وإتاحة الفرصة لموهبة نعيمة الكامنة.
يمكن القول إن فيلمها هذا هو الأشهر في تاريخها السينمائي، والدليل العملى على إمكاناتها الضخمة التى تحتاج مساحة لا تُتاح لها إلا قليلا. مبارزات فنية ممتعة مع محمود عبدالعزيز، وسلاسة في الأداء تبهر المشاهد فيندمج ويذوب كأنه ينصت من شرفة بيته لما يدور في شقة الجيران.
تتخلى نعيمة عن هذا كله في «كراكون في الشارع»، ١٩٨٧، فهى الأم الشعبية الطيبة والجدة الحنون والحماة المحبة لزوجة ابنها بلا غل أو ضغينة. لا متسع للكثير من المرح في ظل الهموم والانكسارات، وبكاؤها صادق موجع وهى تتشبث بالبقاء في المقابر مجاورة للزوج، كأنها تنتظر الموت والراحة. نعيمة هنا تشبه الحياة تماما، تضحكك وتبكيك.


التابعة التى تشبه الصديقة المشيرة كاتمة الأسرار في «الزوجة الثانية»، ١٩٦٧، السجانة في «حب في الزنزانة»، ١٩٨٣، صاحبة القهوة النشيطة الساخرة في «السكاكيني»، ١٩٨٦، الجارة الثرثارة شبه الخبيثة في «جرى الوحوش»، ١٩٨٧، الخادم الصريحة خفيفة الظل لاذعة العبارات في «ليلة عسل»، ١٩٩٠، وعشرات الأدوار الصغيرة الأخرى، بمثابة التجسيد العملى لموهبة كبيرة لا تحظى، إلا قليلا، بما تستحق من تواجد فاعل مؤثر. البطولة ليست مطروحة في ظل القوانين التى تحكم صناعة السينما، لكن الدور المناسب كما هو الحال في «الليلة الموعودة»، ١٩٨٤.
الخاطبة أم إمام تملأ الفيلم بالحيوية والمرح وصناعة البهجة، وفى انتقالها من الشر إلى الخير تتسلح ببساطة وبراءة من لا يرى بينهما فارقا، ذلك أن متطلبات المهنة هى الحكم والفيصل. تغرى زبائنها باقتدار خاطبة محترفة لا تمثل، وتقبل الأجر والعطايا في بساطة أخاذة تقتحم بها القلوب وتفرض الابتسام. إنها عنصر أصيل في المباراة الكوميدية البعيدة عن الابتذال، وتحشد كل مخزون موهبتها لتبدع وتمتع.