الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

مصطفى بيومي يكتب: عباقرة الظل.. رءوف مصطفى الموهوب الأنيق

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

كيف لا يصعد ممثل كهذا إلى الصدارة التي يستحقها بجدارة؟ وما الذى ينقصه وهو الموهوب الوسيم الأنيق ساطع الحضور؟ أى خلل سرطاني يحرم السينما المصرية من عطاء ثرى كان قادرا عليه، ولماذا يتفنن صناع القبح والابتذال في إهمال ومحاربة كل جميل أصيل؟! وجه معبر جدير بالحب والثقة، وعينان ذكيتان عميقتان صادقتان تنوبان كثيرا عن اللسان، في مواقف ينبغى أن يعلو فيها إيقاع الصمت وبلاغة الذهول. تنعكس ثقافته على أسلوب أدائه الهادئ الرصين الذى لا يقلد فيه أحدا، ويتجلى وعيه في القدرة على الإحاطة الدقيقة بخصائص الشخصية التى يجسدها والكشف عن المخبوء المكنون، دون نظر إلى المساحة التى تتحرك فيها.

الإنصاف يقتضي التأكيد أن رءوف مصطفى يتحمل جانبا لا يستهان به من مسئولية الظلم الذى يلحق به، فهو يغيب طويلا ويعود ليبدأ من نقطة البداية، ويتناسى أن السينما المصرية، ذات الحسابات التجارية في المقام الأول، لن ترحب بوجه جديد- قديم في الستين من عمره.

غياب طويل وعودة على مشارف الستين


البداية باسم عبد الرءوف مصطفى في «القاهرة ٣٠»، ١٩٦٦، ثم غياب يمتد عقودا متصلة، تعقبه عودة في أدوار صغيرة وهامشية قرب نهاية التسعينيات، وهو على مشارف عامه الستين. لا متسع أمامه للحصول على فرصة تجسيد شخصيات تنتمى إلى الشباب والكهولة، فهل تخلو الحياة والسينما من الشيوخ؟ عشرون فيلما في المرحلة الجديدة التى تنتهى برحيله في الأول من أكتوبر ٢٠١٧، ولا يخلو المحصول القليل من درر ثمينة.

محامى الزوج في «محامى خلع» ٢٠٠٠، ووالد جيهان السادات في «أيام السادات» ٢٠٠١، وعميل المخابرات الأمريكية في «ليلة سقوط بغداد» ٢٠٠٥، ووالد جيهان في «حليم» ٢٠٠٦؛ ولعل الدور الأهم على الرغم من محدوديته هو ما يقدمه في «الريس عمر حرب» ٢٠٠٨.

«المسيو عارف» من علامات صالة القمار وعالمها الاستثنائى غير التقليدي. لا يقامر مثل غيره: «بييجى مخصوص عشان يسلف اللى بيخسروا.. وبياخد نسبة.. واللى يسلفه ياخد منه باسبوره أو مفتاح عربيته أو ساعته».

يتحول وجه رءوف إلى شبيه بالمرابى اليهودى شيلوك في «تاجر البندقية»، وفى صمته دهاء وخبث ومكر، أما نظراته إلى النقود فترجمة بليغة صامتة لمعنى الجشع وشهوة الامتلاك.

تتسع المساحة قليلا في «بحب السيما» ٢٠٠٤، و«ديل السمكة» ٢٠٠٣، وفى الفيلمين يترك رءوف بصمته في تاريخ السينما المصرية.


بحب السيما

الأب والجد بشرى في «بحب السيما»، شخصية تتسم بالحيوية وتنوع الانفعالات في مواجهة المواقف المتباينة التى يواجهها. منذ ظهوره الأول، متأنقا يلقى نظرة أخيرة متأنية على المرآة قبل مغادرة البيت، يتجلى حرصه على التشبث بالشباب الذى يغادره بالضرورة قبل سنوات طوال. يناديه الحفيد المشاكس بكلمة جدى فلا يستقبل الكلمة بارتياح، وتعلق زوجه بشرى، عايدة عبد العزيز، في نبرة قوامها التهكم وثيق الصلة بالحب والإعجاب: «يا ابنى ما تقولوش يا جدو.. قوله يا بابا بشرى.. ما بيحبش اللى يقوله يا جدو.. أصله فاكر نفسه لسه صغير».

مسرف في تأنقه، مولع بصباغة وتلميع شعره، طيب القلب كما يتجسد في ابتسامته الراضية التى يعلق بها على كلمات زوجه. صاحب جراج مستور الحال، وأب يعانى هموما شتى تتعلق بمستقبل أبنائه، ومن هنا انفعاله العصبى المتطرف، المغاير لطبيعته الانبساطية، عند اكتشاف أكاذيب عريس ابنته، إدوار. صدمة تدفع الطيب الوديع الهادئ المتشبث بالشباب إلى غضب عارم ينفس من خلاله عن مشاعر الاستياء والشعور بالخديعة: «الجوازة دى قايمة على الغش.. العريس كداب.. الأفندى ده كدب عليا.. هو وأهله ناس كدابين».

في حالتيه المتناقضتين المتنافرتين، الرضا البشوش والغضب العنيف، يتسلح رءوف بالانضباط الانفعالى الذى يليق بممثل محترف قدير، وبعد هدوء العاصفة وضغوط الأهل والأصدقاء، ينتقل بالبراعة والسلاسة نفسها إلى حالة ثالثة يقبل فيها مضطرا بما لا يرضيه، ويوافق على الزيجة مقهورا محتفظا في أعماقه بالرفض الذى يعلنه قاطعا في حواره مع القس: «دى تقعد من غير جواز أحسن ما تتجوز اللطع ده».

نبرة صوته ولغة جسده وانكسار وجهه عند التراجع، تؤكد للمشاهد أنه يخوض صراعا داخليا ملتهبا يحطم توازنه النفسي، وما كلماته القلائل إلا التعبير عن الحد الأدنى مما يسكنه من وجع: «يغوروا يتجوزوا بعيد عني.. بس أنا عمرى ما ها أدخلهم بيت».

الصراع المحتدم المكتوم يقود إلى السقوط في براثن المرض، والشلل يطول الجسد والروح معا. وجه جديد مختلف يظهر به، وفى المشهد الذى يجمعه بالحفيد الشقى المشاكس والكوتشينة التى يغرى بها جده، تشرق ضحكة من القلب تعيد بعض الرونق الذابل، لكن العلة تنتصر ويحل الموت المباغت وهو يشاهد التليفزيون ضاحكا.

المساحة التى يتحرك فيها بشرى تتيح للممثل الموهوب أن يكشف عن بعض مخزون إبداعه، ويتجاوز قيود المشهد الواحد أو المشاهد القصيرة التى تعرقل عطاءه. التحقق الكاشف المضيء نجده قبل عامين في «ديل السمكة»؛ حيث المشهد الذى لا يُنسى في تاريخ السينما المصرية.


ديل السمكة

تسع دقائق تقريبا، بمثابة الفيلم القصير المستقل داخل «ديل السمكة»، ولو لم يكن في مسيرة رءوف مصطفى إلا هذا المشهد لكان كافيا حتى يُسجل اسمه بحروف من نور الإبداع المتفرد غير المسبوق في تاريخ الفن السينمائى المصري، الذى يتجنب الاشتباك مع القضايا الشائكة مثل الشذوذ الجنسي، إلا في الاستثنائى النادر.

الحوار بارع كأنه الشعر في تكثيفه وابتعاده عن الثرثرة، والموسيقى فاعلة تسهم باختيارها الدقيق في تشكيل اللوحة، والصمت المحسوب مشحون بالكثير من الدلالات التى تتجاوز الكلمات والموسيقى، والمخرج الكبير سمير سيف يتحكم في الإيقاع مثل مايسترو خبير متمكن، وأداء عمرو واكد عفوى سلس؛ لكن هذه المفردات جميعا لا تصل إلى محطة النجاح والتأثير المزلزل بمعزل عن الإحساس الراقى للموهوب رءوف.

البك الثرى الشاذ، والأدق أن يُقال ذو السلوك الجنسى المختلف، لا يحمل اسما، ولا شيء عن عمله ومصدر ثرائه اللافت. من خلال المكالمة التليفونية التى يجريها، قبل وصول كشاف النور، يبدو واضحا أنه في انتظار عشيقه عباس، واعتذاره ضربة موجعة لمن يشكو الوحدة ويتلهف على اللقاء: «لا لا لا.. أنت كده بقى ها تسبب لى إحباط».

مزيج من الوجع والحسرة والاحتجاج في صوت رءوف، ووصول الكشاف الشاب في توقيت كهذا يفتح له باب الأمل في العثور على بديل مشبع. نظرات المحروم المتلهف تقوم بعملية التقييم الصامت تمهيدا لاتخاذ القرار، والإصرار على دعوة الشاب البسيط الكادح إلى الغداء تنم عن سلطة من لم يعتد على رفض أوامره: «أنا لما أقول أنت ها تتغدى معايا.. يبقى ها تتغدى معايا».

إشارة البك إلى أصناف الطعام وفوائدها بريئة في الظاهر، عند افتراض حسن النية، والحديث العابر بلا تفاصيل عن الزيجة الفاشلة والطلاق، تأكيد أنه لا يشبه العاديين الأسوياء من الناس، أما حبة الفيتامين «المنشطة» التى يمنحها للضيف فإنها تنبئ بالتفاؤل في بناء علاقة جديدة. الاسترخاء والموسيقى والاقتراب والتقرب واللمسة التى تبدو عفوية وهى ليست كذلك، مفردات متشابكة متكاملة قبل الوصول إلى المحطة الأخيرة، وتقديم العرض المباشر، المرفوض بلا تردد من الزائر السوي:

«- هات من الآخر.

- ما فيش أجمل من إننا نقضى وقت ظريف مع بعض.

- وإذا قلت لحضرتك لا؟

- ولا حاجة.. دى رغبتك وأنت حر فيها».

تتجلى عبقرية رءوف في استقباله للرفض بما يتوافق مع شخصيته المتحضرة المثقفة، فهو لا يتطرف في رد الفعل الانفعالى الذى لا يمكن أن يكون مبررا مقنعا، ويطوع وجهه للكشف عن رؤيته لمثل هذه العلاقات في إطار حرية الاختيار والرغبة المشتركة بين الطرفين بلا قهر: «احنا بنى آدمين.. مش وحوش في الغابة».

يوقن الوحيد المأزوم، المريض بالشذوذ، أن سلوكه الجنسى المختلف قدر لا مهرب منه، ويؤكد في ثقة أنه «إنسان محترم». يقول للمحصل المسكون بالاشمئناط والتقزز إن الإنسان لا يختار اسمه وأباه وأمه وعمله ومكان ولادته، ثم يضيف في مرارة هادئة: «أنا كمان ما اخترتش إنى أكون كده».

دور معقد بالغ الصعوبة، واختبار شاق يتجاوزه رءوف مصطفى بامتياز. يستوعب أبعاد الشخصية، ويترجمها بالصوت الدال والحركة المحسوبة والبوح البليغ بنظرات العينين وتعبيرات الوجه. لا يدفع أداؤه الفذ إلى الموافقة على سلوكه غير السوي، ولا يقود إلى النفور أيضا، ذلك أن الرسالة التى يقدمها ليست إلا محاولة للفهم والانتصار للإنسان.


مبدع عملاق جاد

رءوف قامة وقيمة، وقد يغيب اسمه عن ذاكرة الكثيرين من مشاهدى أفلامه القليلة المتميزة، لكنهم يعرفون جيدا أنهم في حضرة مبدع عملاق جاد. ليس الأول في قائمة من تفوق مواهبهم حصاد إنتاجهم ولن يكون الأخير، ولا شيء يخفف من وقع الحزن إلا حقيقة إن الدقائق التسع في «ديل السمكة» بمثابة الدرس الذى يتعلم منه المشاهد كيف يكون متحضرا متسامحا موضوعيا في تقييم ما لا يروقه، ويتعلم محبو التمثيل كيف يكون الأداء الذى يقتحم القلوب وينعش الأرواح.