الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

معركة الهوية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
قضية الهوية قضية محورية، أزعجت كل الناس، إذ إن كل جماعة أو أمة تعوزها الهوية المتميزة ليمكنها المعيشة والمحافظة على وجودها؛ فالهوية هى التى تحفظ سياج الشخصية، ومن دونها يتحول الإنسان إلى كائن تافه فارغ غافل تابع مقلد؛ لأن للهوية علاقة أساسية بمعتقدات الفرد ومسلماته الفكرية، وبالتالى تحديد سمات شخصيته فتجعله إنسانًا ذا قيمة ولحياته معنى وغاية، والهوية هى تعريف الإنسان نفسه فكرًا وثقافة وأسلوب حياة، أو هى مجموعة الأوصاف والسلوكيات التى تميز الشخص عن غيره، وكما أن للإنسان هوية كذلك للمجتمع والأمم هوية، ولكل منها مميزاتها وقيمها ومبادئها، فإذا توافقت هوية الفرد مع هوية مجتمعه كان الأمن والراحة والإحساس بالانتماء، وإذا تصادمت الهويات كانت الأزمة والاغتراب.
وبشكل بسيط ومختصر وغير أكاديمي؛ فإن الهوية هو كل شيء غير ملموس، لكنه يظهر عند اللزوم، عملاق خامد بداخلك يطفو على السطح ليصنع شيئًا أو يصد عداء يقترب من جذورك ثم ينام مرة أخرى، ربما تطول نومته لكنه لا يموت أبدًا، وبخاصة إن كان حقيقيًا فريدًا نقيًا كالهوية المصرية، ولكن ما الطريق لتغيير هذه الهوية؟ مدخل الهوية السريع هو باب الغرائز: الجنس، الطعام، المخزون المعرفى كالكتاب والفيلم والمسلسل والدراما وشكل الملابس.
ويمكنك أن تلاحظ بسهولة في السنوات من 2008 تقريبًا إلى 2013 التحول الخطير الذى أحاط بالشخصية المصرية قبل أن تنفضها، بالتحديد منذ بزوغ نجم مسلسل «نور ومهند»، وأنت ترى كيف تبدلت موسيقى ياسر عبد الرحمن التى كانت تفوح من الشبابيك بعد العصارى مع بكاء يحيى الفخرانى في «الليل وآخره» إلى موسيقى عجيبة وأصوات مدبلجة غريبة لا تشبهنا وكلمات لا تلمس إحساسنا، لكنها أصبحت رغمًا عنّا جزءًا من قاموسك السمعى اليومى مثل: «يا بابا« و«شريفة خانم»، الجامعات كانت تعج بالاستايل التركى في الدقون والشوارب، «السفر لتركيا» دخل في اختيارات أماكن قضاء شهر العسل، إذا ذهبت لمحل ملابس شعبى سوف يغريك بأن: هذا البنطلون قماشة تركي، كنت تسير في مصر لكن تركيا تحاوطك، بداخلك الهوية المصرية لكن هوية أخرى تحوم حولها من كل الجهات، منتظرة ثغرة واحدة تنفذ منها للاختراق.
وبعد أن تم دحر السيناريو التركى وعودة الكل إلى حجمه الأصلي، بدت الدراما المصرية ومن خلفها كل العرب تستعيد مساحتها من جديد (أنا هنا لا أتحدث عن جودة الدراما الحالية فنيًا، لكنى أتحدث عن عودة الاستحواذ على المساحات الطبيعية للدراما المصرية في بلدها مصر»، تم بعدها دحر الدراما التركية بشكل كبير، وعاد الجمهور المصرى لدرامته يمدح هذا الفنان ويتهكم على الآخر، يعلى من شأن هذا العمل ويحط من شأن الآخر، لكنه في النهاية يقف في بيته لا بيت آخر.
وبعد أن تم دحر التسلل عبر الدراما كان لا بد من اللعب على غريزة أخرى، ألا وهى غريزة الطعام، وكما قال أحد الساسة الأمريكان «ما كنّا لنحتاج كل هذه القوات والحشود العسكرية لتدمير الهوية الجماعية للشعوب.. يكفى فقط فتح سلسلة محلات من ماكدونالدز وكنتاكي»، وتأكيدًا لما قاله جان أنتيلم بريلات: «قل لى ماذا تأكل.. أقول لك من تكون».
ورأس الحربة في معركة اللعب على غريزة الطعام هو شخص نراه في اليوم خمسمائة مرة تقريبًا، ينظر للكاميرا مبتسمًا كالحجر، يحشى النعامة بكوريك نقل الأسمنت، يشوى دجاجة بحجم التنين، وخروف بحجم طائر الرُخ، يرش الملح على سمكة - ربما تكن سمكة القرش - ثم يغمرها بالنار فتستوي، وتقترب الكاميرا منها حتى يسيل لعابك على اللحم الذائب كالزبدة الفلاحي، يحشى الحمام لحمة مفرومة، ويحشى اللحوم حماما، وأما عن الحلويات فحدّث ولا حرج، رأيته قبل ذلك ينخر بطيخة حتى جعلها جوفاء إلا من القشرة، ثم وضع فيها عسل وسكر ولوز وجوز وعين جمل وفستق حَب وفستق مرشوش وروح الكعك ودقيق وشربات وريحان، كان ينقصه فقط أن يضع عفش بيته في البطيخة حتى يلفت انتباهي، وأرجوكم لا تظنوا أنها انتهت هكذا، فقد صنع الرجل للبطيخة صنبورًا حتى ينزل منه سوائل هذا الخليط العجيب الذى لا أظنه لذيذًا أبدًا، لكنه بالتأكيد اغتصب انتباهى أكثر مما لفته.
وهنا نجد أمامنا سؤال مثير للانتباه: ما الدور الحقيقى لهذا الرجل؟
الشيف التركى محمد بوراك أوزديمير، لا أستطيع أن أقول لك إنه شيف على كفاءة عالية، كيف تقارنه بغيره وهو يشوى كائنات بحجمه هو شخصيًا في فيديو لا يتجاوز الثلاثين ثانية، في مقابل شيف كالشيف الشربينى، والذى يصنع وجبة منطقية في ساعتى زمن بأحجامها الطبيعية، الوقت والحجم بالتأكيد عاملان يجعلان مشاهدة أسهل وأكثر إبهارًا، لكننا لسنا هنا لنصنع مقارنات بين بوراك والشربيني.
في فيلم «هرقل» كانت هناك شخصية بارعة في اختلاق قصص خيالية عن قوة جنود البطل، يحكى دائمًا كيف أنه يستطيع أن يحمل أثقالا ويجرى بها، وفى أحد المشاهد كان العدو في منتهى الشراسة، فقال البطل لهذه الشخصية: اهرب من الساحة، أنت أهم من جميع المقاتلين، صحيح أنك لا تحمل سلاحًا لكنك تحمل خلود القصة، بالضبط هذا هو دور بوراك الحقيقي.
وشئنا أم أبينا فإن بوراك كان مُقدرًا له أن يكون طباخ الأمير، إذا نجح – لا قدر الله - سيناريو الأغا في جعل الشرق الأوسط إمارة كبيرة على رأسها يتوج أردوغان «أميرًا لها، قبل أن تسقط مصر هذا السيناريو بلا عودة، وهو واحد من الذين خسروا بعد ضربة المصريين، وهو أحد الجنود الموجهة ضد الهوية المصرية، فهو يأخذ بيدك بواسطة الطعام بشكل فج للابتعاد عن هويتك من ناحية التذوق، يمحى يوميًا من ذاكرتك حب محشى الست الوالدة وكشرى أبو طارق وحبايب السيدة وكل الذكريات المرتبطة بشهقة الملوخية وجلسة تقريص كحك العيد، ويربط ذهنك بفانتازيا الأحجام التى لا تليق مع رقة التذوق من الأساس.
والمتابع يجد أن فيديوهات بوراك لا بد أن يصاحبها في الخلفية موسيقى تركى لطرق أبواب الهوية جمعاء، وأن الضجة التى واكبت صعوده ليست بالمنطقية، فانتشاره ليس بحجم ما يفعل، وأن حالة من الهوس تصنعها تركيا للمصريين بدأت بالدراما ويستكملونها بالترويج لفكرة امتلاك أفضل شيف في العالم، وأن هذه الطريقة هى إحدى طرق سحب الريادة وسرقة الهوية في إطار مخطط كبير تكون هذه فقط بدايته، فالسرقة لا تتم عن طريق سرقة الموارد قبل سرقة الذهن وسرقة الفكر وفقدان الحس بالموسيقى والتذوق.
لست أظنكم غير متأكدين من أن كل ما يعرض على القنوات الإرهابية مهما كان يبدو تافهًا أو ساذجًا أو بعيدًا تمام البعد عن السياسة، إنما هو موجه بشكل أو بآخر ضد مصر والمصريين، حيث يعتمد على اختراق جدار الهوية بتقطير المياه يوميًا بعد فشل سيناريو ضربة الفأس، ومن حين لآخر يظهر الدور الحقيقى من خلال ما يفعله، وهو باختصار تمرير صورة أردوغان وترسيخ وجوده في الذهنية الشرقية، وبالأخص منها المصرية، من خلال نشره لفيديوهات زيارات أردوغان للمطعم، لكنك حين تراه بجوار دجاجة مشوية سال لها لعابك لا بد وأن مشاعرك ستصاب بالارتباك، وستقول لنفسك: هل هذه الصورة جيدة أم لا! من الممكن أن تقول لى إن هذا أمر طبيعى، ما الأزمة في أن يزور رئيس بلد مطعمًا في نفس البلد، أستطيع وقتها أن أخبرك أن لقاء خاصا في إحدى القنوات الإرهابية جمع بوراك بأحد المذيعين الذين يتمنون جهارًا نهارًا لو أن تصبح مصر كومة من التراب والنار والخراب - وكما اتفقنا أن كل ما في هذه القنوات موجه ضد مصر والمصريين - وهو ما حدث بالفعل.. لم يمر على الحوار عنه بضع دقائق حتى تحول الحوار عن أردوغان، وذكر بوراك أن أردوغان كان صديقًا لوالده منذ الصغر، وانهال مديح الأغا على شفتى بوراك ومن ورائه يغلف المذيع الحوار بأسئلة حتى يظن المشاهد أنه حوار تليفزيونى عادى ليست جلسة لتجميل صورة الأغا.
كتبت هذا المقال وأعرف كم من الممكن أن يتهكم عليه.. لكن ما أريده أن تتشكك في ابتسامة الأفعى بوراك، فالمؤامرة التى فشلوا في تمريرها من العقل يحاولون أن يمرروها من المعدة، وليس عندهم مانع من تمريرها عن طريق الإباحية، ولا أشك لحظة أنهم يصنعون ما هو أكبر من التوقعات، لكن الهوية مصرية وقفت ضد السياسات والأفكار والتاريخ المسموم، ولا أظن أنها ستستجيب أبدًا للطعام المسموم!