الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

مصطفى بيومي يكتب: توفيق الحكيم «محسن حامد العطيفي» من رواية «عودة الروح»

مئة وخمسون شخصية روائية مصرية "13"

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
على مر الزمان والأجيال، سطر التاريخ بحروفٍ من نور أسماء روائيين ومبدعين، أضاءوا حياتنا وعمرنا وقيمنا.. الكاتب المبدع مصطفى بيومى بدأ مشروعًا طموحًا للكتابة عن هؤلاء العظماء، وأنجز منه ثلاثين فصلًا.. يتضمن كل فصل تحليلًا لشخصية روائية واحدة من إبداع كتيبة الروائيين المصريين، من طه حسين ومحمد حسين هيكل وعبدالقادر المازنى إلى جيل الشباب الموهوب المتوهج، مرورا بعشرات الكتاب الجديرين بالاهتمام والدراسة.
عبر هذه القراءات، يقترب مصطفى بيومى من الحياة المصرية في مناحيها المختلفة، انطلاقًا من تساؤله المشروع: «وهل مثل الرواية في قدرتها على تقديم الشهادة الشاملة التى يمكن من خلالها التطلع إلى المستقبل الأفضل الذى ننشده؟». «البوابة» تحتفى بكاتبنا الكبير وتنشر صباح يومى الثلاثاء والسبت من كل أسبوع، فصلا من الدراسة القيمة، لتكون شاهدًا على عصور زاخرة في عمق الأدب المصرى وقوته الناعمة.

الأسرة التى يقدمها توفيق الحكيم في «عودة الروح»، تعبير عن الشعب المصرى متعدد الطبقات في إطار الانتماء الوطني، مدرس الحساب حنفي، طالب الهندسة عبده، ضابط البوليس الموقوف عن العمل سليم، العانس زنوبة، الخادم مبروك، تلميذ المرحلة الثانوية محسن؛ جميعهم بمثابة الكيان المتماسك الذى يعيش في واقع لا يخلو من البؤس ويغلب عليه الحرمان، لكن اللوحة مغلفة بالفكاهة والمرح، والتشبث بالحياة لا يتوارى أو يغيب.
ينتمى محسن إلى الفرع الثرى في عائلة العطيفي، ويقيم في القاهرة لاستكمال دراسته مع عميه وعمته وابن عم أبيه، يلتزم أبوه حامل لقب البكوية بدفع مبلغ شهرى مقابل إقامة محسن الذى يقترب من مغادرة المراهقة ومعانقة بواكير الشباب، ويندمج في قصة حب رومانسية مع الجارة سنية حلمي. لا شك أنه الشخصية المحورية الرئيسة في الرواية، ومن خلاله يمكن التعرف على خريطة الحياة المصرية في المرحلة التاريخية المواكبة لثورة ١٩١٩، نقطة الارتكاز التى ينطلق منها البناء التاريخى المصرى المعاصر.
بالنظر إلى تاريخ كتابة الرواية ١٩٢٧، أو نشرها ١٩٣٣، يمكن القول إنها عمل رائد مؤسس لجنس أدبى جديد، وفى هذا الإطار لا يخلو البناء من ارتباك واضطراب، كما يتجلى في النزوع إلى الثرثرة والاستغراق في حكايات جانبية مطولة مقحمة لا تسهم في تطور الحدث، لكن البدايات الأولى تتسع بالضرورة لهنات كهذه.
يمثل محسن شريحة مهمة في المجتمع المصرى خلال المرحلة التاريخية، قرب نهاية العقد الثانى من القرن العشرين، فهو ابن لفلاح ثرى من ملاك الأراضى الزراعية، والأم تركية الجذور تتيه بأصولها متعالية على الفلاحين الذين تحتقرهم وتزدريهم، ولا ينجو الزوج نفسه من قذائف سخريتها اللاذعة. تقسو على نساء القرية المرحبات بوصولها إلى العزبة، ويعاتبها محسن:
- ليه يا نينة تطرديهم؟
فأجابت بجفاء وقلة اكتراث:
- حرام إيه.. دول فلاحين!».
لا يسير محسن على خطى الأم المتغطرسة المتعجرفة، ولا يشبه أباه في السلبية واللامبالاة. منذ طفولته المبكرة، يتسم بالنزعة المثالية والحساسية المفرطة من مكانته الطبقية الموروثة، وليس أدل على ذلك من شعوره بالحرج والخجل لإصرار أهله على ارتداء ثياب فاخرة يتميز بها عن أقرانه من زملاء مدرسة دمنهور الابتدائية: «واشتد به الأمر إلى حد أن كان يخفى اسم أسرته عن رفاقه!».
ينجح طويلا في إخفاء هويته الطبقية، وعندما يصيبه المرض وترسل أمه العربة الفاخرة لاصطحابه من المدرسة ينكشف أمره، وتلاحقه نظرات الرفاق البريئة الساذجة. عندئذ يطرق يائسا: «واتجه نحو العربة كمحكوم عليه؛ وكأنما يسمع في أعماقه صدى حكم لا يقبل نقضا يهتف: محسن خرج من زمرتنا إلى الأبد!».
يؤثر الانتماء إلى الجماعة بلا تمييز، ويحتفظ بجوهر شخصيته الطفولية عند الالتحاق بالمدرسة الثانوية والإقامة مع أعمامه. على الرغم من حداثة سنه، يبدو أقرب إلى المفكرين المولعين بالتأمل العميق، مسلحا بنزعة ثقافية فنية لافتة: «كان محسن بالنسبة إلى من في سنه رزينا عاقلا، لا يميل كأغلب أقرانه إلى الألعاب الصبيانية. فقلما كان يُرى جاريا قافزا، كل ملاهيه وألعابه فكرية لا مادية.. ألذ أوقاته ما كان يقضيها في المناظرة ومطارحة الشعر مع عباس، ومن يتفق معهما في طبيعتهما الروحية؛ لذلك كان مظهره أكبر من عمره.. وكانت له هيبة المسن بين تلاميذ الفصل الدائبى الهذر والضجيج».
أفكار محسن واهتماماته تفوق عمره، والولع بالشعر والمناظرات علامة على توجهه الثقافى الذى يمنح الهيبة والوقار، ويتوافق ذلك مع الحس الفنى الذى يلازمه منذ الطفولة، ويتجلى في التعلق بالموسيقى والغناء ومصاحبة الأوسطى لبيبة شخلع كأنه من أفراد تختها. تحظى ذكرياته عن هذه المرحلة باهتمام كبير من الروائى الذى يفرد ثلاثين صفحة للحديث الذى يبدو مقحما، ذلك أنه أقرب إلى الثرثرة التى لا تضيف جديدا.
بفضل موهبته الموسيقية الغنائية، تُتاح له فرصة الاقتراب من جارته سنية حلمي. يزورها في بيتها بصحبة عمته زنوبة، فيغنى وهى تعزف على البيانو أدوارا لعبده الحامولى وغيره. الجارة ابنة الطبيب العسكرى هى بطلة قصة الحب الأول في حياة محسن؛ القصة الرومانسية التى تكشف عن طبيعة وملامح شخصيته، بقدر كشفها عن سمات المجتمع الذى لا تختلط فيه المرأة بالرجل، وتشتعل قصص الحب بسرعة مماثلة لانطفائها.
سنية فتاة في السابعة عشرة من عمرها، أى تكبر العاشق محسن بنحو عامين فقط. يهيم بالفتاة الأكثر نضجا، ومنديلها الذى يسرقه ويحتفظ به علامة على المشاعر التى يكنها صامتا، فلا متسع للبوح والإعلان. يراها للمرة الأولى عند زيارتها للعمة زنوبة، وعندما تُتاح له فرصة الغناء في حضرتها يعود منتشيا مسكونا بالرغبة في الوحدة: «ولأول مرة شعر محسن بسوء تلك المعيشة. خمسة أشخاص في حجرة واحدة.. لأول مرة أحس الحنق على تلك المعيشة المشتركة التى كانت منبع هناء وصفاء وغبطة للجميع».
للانخراط في القطيع مزاياه وعيوبه، ومع الوقوع في الحب بكل ما يترتب عليه من تداعيات، يبدو الانفراد بالنفس مطلبا ضروريا لا يعنى نفى الانتماء إلى الجماعة والتشبث بها، لكنه يكشف عن رغبة في الابتعاد والتأمل. في ليلته هذه، يجافيه النوم: «هرب النوم من عين محسن، وعلم أنه لن ينام في ليلته تلك.. إلا إذا أذنت هى له.. وتذكر قول مهيار الديلمي:
وابعثوا أطيافكم لى في الكرى
إن أذنتم لعيونى أن تناما».
للحب الأول في سنوات المراهقة خصوصيته وتفرده، وبخاصة عندما يكون العاشق رومانسيا حالما مولعا بالشعر الرقيق الذى يجسده الاستشهاد بمهيار الديلمي. في إطار التفاعل مع الحالة الجديدة، يندفع محسن إلى مغامرة غير مسبوقة. يقع عليه الاختيار لارتجال موضوع إنشائى في الفصل، وإذا به يختار «الحب»؛ الكلمة التى لا يستوعبها المدرس التقليدى المحافظ، ويهلل لها التلاميذ العطشى للعاطفة المحرّمة المحاطة بأسوار وقيود. الحالة ليست فردية، وينوب محسن عن جيل كامل من المحرومين الحالمين بالانطلاق والتمرد على التقاليد القاسية.
قبل الاقتراب من سنية ومجالستها، يسرق محسن منديلها، وإذا به يعترف لها أن المنديل لم يضع ويحمله الهواء بعيدا: «وأنه موجود، وفى حوزة إنسان، يحمله دائما ويحافظ عليه ويعتز به، وكتم عنها اسم ذلك الإنسان».
هل يريد التلميح إلى أنه السارق الذى يحبها؟ حيلته لا تجدي، ذلك أن تفكيرها يتجه إلى الجار مصطفى دون غيره، فهو الرجل الثرى الناضج المرشح عندها للحب والزواج، أما محسن الأقرب إلى الأطفال فلا متسع للتفكير فيه، ووفق العاشق نفسه: «إنه صغير لا يصلح حتى أن يُعد غريما ومزاحما».
لا تكافؤ أو ندية في قصة الحب التى هى من طرف واحد، والفتاة الناضجة الواعية لا تسكنها مشاعر شبيهة بما يعايشه محسن. تتأمل الرجال حولها، وترى العاشق المتيم غلاما جديرا بالإشفاق الذى لا شأن له بالحب والزواج. يصل محسن إلى القراءة الصحيحة للمشهد: «إن النساء قبل كل شيء يهمن بالرجل القوى الجسم، الممتلئ طولا وعرضا، ذى الصوت الخشن، مدفوعات بدوافع خارجة عن إرادتهن.. لعلها الغريزة الجنسية».
الآخرون يفكرون في سنية كامرأة، وهى بدورها تراهم رجالا، والغريزة الجنسية مشتركة بين نمطى التفكير، أما محسن فإنه حالم يتصور محبوبته كأنها المعبود الذى لا يشبه البشر، يتحدث سليم عن سنية بمفردات حسية صادمة:
- أما يا ولاد عليها نهود!.. صلاة النبى أحسن.. برتقال حط صغير على أمه!
وعندئذ شعر الفتى محسن بما يشعر به عابد ورع متنسك، وقد رأى أحدا يهين معبوده بكلمات بذيئة».
إنهم لا يعبدون ما يعبد، وسنية عندهم امرأة تُشتهى بلا قداسة. لا شك أنها تستمتع بحب محسن لها، وتحب حبه الذى يشبع غرورها. يبكى بين يديها كطفل، وقبلاتها له في لحظات انهياره تؤكد أنه عندها لم يتجاوز الطفولة إلا قليلا. تهديه المنديل الذى يعيده إليها، لكنه يرده مجددا كأنه يحتج. يسافر في إجازة نصف العام مؤملا أن تكتب رسائل عمته ليجد في خطةا وأسلوبها ما يعيش عليه، ثم يعود ليكتشف أن كاتب الرسالة التى يحفظها ويسرف في تأويلها ليس إلا «عرضحالجي» محترف ركيك الأسلوب، ويستمع من عمته الموتورة شتائم بذيئة تتهم المعبودة المقدسة بأنها «شرموطة»!.
الوارث مصطفى هو من يظفر بسنية ويتهيأ للزواج، والأوجاع الذاتية التى يتعذب بها محسن لا تستمر بلا نهاية، ذلك أن الثورة الوطنية التى يندمج فيها الجميع، تزيح الهموم القديمة لتطل اهتمامات جديدة.
قبل شهور قليلة من اشتعال ثورة سنة ١٩١٩ تبدأ أحداث الرواية، لكن أحدا من أفراد «الشعب» لا يبدى اهتماما بالسياسة وما يقع من أحداث خارج نطاق الأسرة وهمومها ونثريات إيقاعها اليومي.
على الرغم من مماثلة محسن للجميع في الانصراف عن السياسة، فإنه الوحيد الذى يدمن الثقافة ويراود أحلاما فكرية تتجاوز العادى المألوف من أحلام «الشعب». في فناء المدرسة، يشير إلى نفسه وإلى صديقه الحميم عباس، ويقول لرفاقه مفاخرا:
- بكره إحنا اللى نكون لسان الأمة الناطق.
ونظر إلى عباس كأنما يزيده تشجيعا وتأكيدا، وأراد أن يستمر، ولكن خطرت له عبارة أبرقت لها أساريره.. عبارة تعتبر لمثله ولمن في سنه ومعلوماته وحيا، فاندفع قائلا:
- عباس!.. وظيفتنا بكره حاتكون التعبير عما في قلب الأمة كلها.. فاهم؟.. يا سلام!.. لو تعرفوا قيمة القدرة على التعبير عما في النفوس.. التعبير عما في القلوب؟».
الأمة الساكنة الهادئة الوديعة ليست خرساء على الرغم من صمتها الطويل وما قد يوحى به من سلبية، وقلب الأمة مسكون بالكثير من الأحلام والتطلعات، لكن المناخ المستقر الراكد لا يتيح الفرصة للتعبير، ولا يسمح بالتحول من مقام الصمت إلى انطلاقة البوح.
في الإجازة القصيرة التى يقضيها محسن مع أسرته في الريف، يرصد بتعاطف رومانسى حياة الفلاحين وما يكابدونه من عناء وقهر. الملاك المصريون يتعالون عليهم في قسوة، والبدو الأجلاف يرونهم عبيدا خانعين، أما عالم الآثار الفرنسى فيشيد بموروثهم الحضارى الذى يسكنهم عبر آلاف السنين، ويتسلحون عنده بما يسميه «علم القلب». الصبر على الأذى والمكاره ليس قدرا لا فكاك منه، وهم في انتظار منبه مفجر يخرج بهم من القمقم ليبدأ الطوفان. في اللحظة التاريخية المناسبة، تصدر عن هؤلاء الفلاحين البسطاء المسالمين أفعال خارقة تشبه المعجزات. متى وكيف؟ هذا هو السؤال.
المعبود- الزعيم هو ما يحتاجه المصريون لينفضوا عن كاهلهم عبء الصبر الطويل على ما لا يرضونه من المظالم، والمعبود المستهدف ليس بعثا للوثنية القديمة، لكنه «رمز» يلتف حوله الجميع ويسيرون وراءه ويراهنون من خلاله على الغاية والمثل، لن تصل اللوحة إلى غايتها ومنتهاها إلا بعد بزوغ الرمز والمفتاح، والزعيم المنتظر هو القادر على قيادة جموع تملك في أعماقها الحضارة والحلم، وتجهل الاتجاه والطريق.
لا ينشغل الحكيم كثيرا بمقدمات الثورة وتفاصيل ما يسبقها من أحداث، ذلك أن الثورة تبزغ «فجأة» كأنها هابطة من سماء الحلم. التركيز الأكبر على الزعيم- الرمز الذى يقود البعث: «كان الجميع يتحدثون عن رجل لم يسمع به محسن من قبل، ولكنه أحس في لحظة أن حياته يجب أن تُعطى لهذا الرجل».
العاديون من الناس، الذين يشعلون الثورة ويضحون في سبيلها، قد لا ينالون الثمرة المشتهاة، والذين لم يشاركوا ولم يدفعوا الثمن هم المؤهلون للإفادة. مصطفى، بلا تضحيات، يتهيأ للزواج من سنية والاستحواذ عليها: «العقد والتأهيل يوم تهدأ الحالة، بإعادة المنفيّ العظيم إلى مصر الوالهة.
وهكذا.. قد يتفق يوم خروج محسن ورفاقه من السجن مع يوم زفاف سنية إلى مصطفى».
هل يظفر الأغنياء الوارثون بمصر التى يضحى من أجلها الوطنيون مشعلو الثورة؟
هل يعود الزعيم من المنفى ليعتمد العقد ويوافق على التأهيل؟
الزواج لم يتم بعد، والانتظار قائم، والأمر رهين بسعد زغلول الذى يغيب اسمه عن الرواية.
يسيطر سعد على الفصلين الأخيرين من «عودة الروح»، لكن أحدا لا يذكر اسمه، فكأنه سر مقدس يسمو عن الاقتران بغيره من الأسماء العادية التى لا ترقى إلى مكانته السامية في قدس الأقداس.
ينتقل محسن من سنية إلى سعد، ويتم الانتقال بمعزل عن الاسم المقدس. تستحيل: «كل عواطف التضحية التى كان مستعدا لبذلها في سبيل معبود قلبه، إلى عواطف تضحية جريئة من أجل معبود وطنه».
لم يكن محسن في لحظات وجده قادرا على النطق باسم معبودة القلب سنية، فكيف له أن يجاهر باسم معبود الوطن؟.