الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

مصطفى بيومي يكتب: عباقرة الظل.. يوسف عيد.. إحدى الضحايا.. عزاؤه استمرار حياته بعد غياب

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
عبر أكثر من ثلث قرن، منذ منتصف السبعينيات في القرن العشرين، إلى ما قبل قليل من رحيله في سبتمبر 2014، تطالع اسمه في مئات من الأفلام والمسرحيات والمسلسلات والسهرات التليفزيونية، وترى وجهه فتوقن أنك تعرفه جيدا وإن التبس عليك الاسم. كمّ هائل من الأدوار الصغيرة التى يقتصر وجوده فيها على مشهد واحد، أو ربما مشاهد تُعد على أقل من أصابع اليد الواحدة. عند تأمل القائمة الطويلة، وما أكثر الهزيل الركيك فيها، تدرك - بلا عناء - أنك في مواجهة فنان كادح بحق، كأنه من بروليتاريا الممثلين، يهرول لاهثا وراء المتاح له من فرص للعمل، ولا متسع عندئذ لترف الاختيار ومراعاة حق موهبته الفذة. 
يوسف عيد طاقة كوميدية جبارة لا يجود الزمن بمثلها كثيرا، ولعله من القلائل الذين تؤذن إطلالتهم باقتراب معانقة عاصفة من الضحك والمرح. قد تكون أجواء المشهد موحية بالجدية المفرطة، لكنه والحزن لا يجتمعان. الألم وارد بقوة في وجوده، ذلك أنه يعبر عن قطاع لا تغادره الوجيعة، والمرح دواء ميسور الثمن لمداواة ما يعز علاجه.
هو والزعيم
كثيرة هى الأفلام التى تجمعه مع عادل إمام، ومتنوعة أدواره فيها. حارس خزينة رجل الأعمال اللص حسن بلبع في «عصابة حمادة وتوتو»، ١٩٨٢، البائس الهش سيد زوج العاهرة المتقاعدة في «النمر والأنثى»، ١٩٨٧، الحمّار الشرس الذى يحاور حماره ويتشاجر معه في «بخيت وعديلة-٢- الجردل والكنكة»، ١٩٩٦، وتمتد القائمة لتشمل «رسالة إلى الوالي»، ١٩٩٨، «الواد محروس بتاع الوزير»، ١٩٩٩، «التجربة الدنماركية»، ٢٠٠٣، «حسن ومرقص» ٢٠٠٨، وصولا إلى «بوبوس»، ٢٠٠٩، و«زهايمر»، ٢٠١٠.
أفلام عادل إمام تحقق نجاحا جماهيريا جارفا، ويتكرر عرضها في القنوات الفضائية وتحظى بنسبة مشاهدة عالية، ولعل بداية التعرف على يوسف عيد، عند كثير من محبيه، تقترن بأفلامه تلك. ليس مثل شخصية سيد البرشومي، «النمر والأنثى»، في الكشف عن خصائص وسمات الممثل المتمكن، الذى يتكئ أسلوبه في الأداء على العفوية والبساطة، فضلا عن الصوت ذى النبرة الخاصة كأنه الماركة مستحيلة التقليد.
سيد «صنايعى على باب الله»، وفى الشارع ورشته الإلكترونية التى هى منضدة خشبية متهالكة متواضعة. لا يرقى إلى مرتبة أصحاب الحرف، فهو أشبه ببائع جوال زبائنه القلائل من الفقراء. ضيقه واضح بالطفل ابن زوجه، آثار الحكيم، كما يتجلى في كلماته الاحتجاجية التى يقولها في نبرة تنم عن الضعف والتهافت وقلة الحيلة: «جرى إيه يا نعيمة.. احنا اتفقنا على إيه؟.. أنا أصرف عليكِ انت بس.. ما أصرفش على ابنك».
صاحب أشهر أغنية في التجربة الدنماركية
هامشى مهمش قليل الحيلة، وزيجته من العاهرة التائبة في قسم الشرطة، والعمل تافه قليل المحصول. وجه مصرى مألوف، وذعر لا يغادره ويدفعه إلى إدمان الكسل، وتقوده السذاجة إلى نهاية كابوسية منطقية. تكوينه المهتز المضطرب صانع للمواقف الكوميدية التى يؤججها بفرط طيبته وابتسامته الطفولية، وإضحاك من نوع مختلف في «التجربة الدنماركية». يقف في طابور الانتظار في المطارمتلهفا على عودة أخيه من الكويت بعد غيبة طويلة، وكم يبدو ساذجا وهو يتساءل:
- لا مؤاخذة يا باشا.. طيارة الكويت دي؟
- لا.. دى اللى جايه من الدنمارك.
- يعنى ما بتقفش في الكويت؟.
ثقافة متواضعة كهذه تدفعه إلى السير خلف القطيع المسحور بجمال الوافدة الدنماركية، منفردا بالموال الذى يغنيه بصوته الأجش الذى يحمل جمالا من نوع خاص، فلا يملك من يسمعه إلا أن يهز رأسه ضاحكا معجبا:
«يا حلو ياللى العسل سايل من الشفة
شعرك سلاسل دهب.. دمك كمان خفة
أدفع في مهرك ألوف.. وأهديك جميع مالي
لو قلتِ كلمة «يس» مع بسمة من الشفة»
السر لا يكمن في الكلمات، لكنه التحالف بين الصوت ولغة الجسد وتعبيرات الوجه.
يبدأ عادل إمام، أوائل الستينيات، رحلة نجوميته وتربعه فوق القمة من بوابة أدوار صغيرة ناجحة كتلك التى يقدمها يوسف عيد منذ منتصف السبعينيات، فما الذى يحول دون الممثل الموهوب ذى البصمة المتفردة وتكرار الصعود؟. إن لم تكن البطولة المطلقة متاحة لأسباب إنتاجية احتكارية، فما السر في ابتعاده عن الأدوار الرئيسة التى تستثمر موهبة لا اختلاف عليها؟. إنه ليس ممثلا كوميديا تقليديا نمطيا يكرر نفسه، وفى أدواره مع عادل إمام وغيره تنوع لافت، حيث التألق الناضج في تجسيد شخصيات متنوعة، لا مشترك بينها إلا الانتماء إلى القاع الطبقي.
مدرس بائس
الانهيار الشامل الذى يطول المجتمع المصرى في مناحيه كافة، ينعكس بالضرورة على مهنة التعليم التى تتراجع مكانتها الاجتماعية والاقتصادية. ينخرط المدرسون في منظومة الفقراء البائسين المعذبين بالاحتياج الدائم ولدغات الفقر، ويوسف ممن يبرعون في تجسيد التدهور كما يتجلى في فيلمى «انتحار مدرس ثانوي»، ١٩٨٩، و«الناظر»، ٢٠٠٠.
نور، في الفيلم الأول، مثقل بالأعباء العائلية الثقيلة التى ينوء بها مرتبه الهزيل. لا يتوقف عن الاستدانة التى تقف على حافة التسول من زميله الثرى إبراهيم، حسين فهمي. وسط ثلة من الممثلين ثقيلى الظل محترفى الافتعال، يتألق يوسف بتلقائيته وبساطته وحضوره القوى وبراعته في الكشف عن السلوك المزدوج الحافل بالنفاق والانتهازية في شخصية المدرس المولع بالخطب الإنشائية، مسلحا في أدائه المميز بالصوت القوى والإلقاء المرح.
زكريا الدرديري، مدرس الرياضيات واللغة الفرنسية وما قد يستجد من مواد، في الفيلم الثاني، من مصادر البهجة وصناعة الفكاهة الراقية البعيدة عن الابتذال الفج. من الأقدر على التعبير عن بؤس العملية التعليمية مثله؟. إنه يشبه آلاف المدرسين المعاصرين الذين يخوضون حربا شرسة غير متكافئة ضد الفقر وتدهور المكانة. صمته موجع، وكلامه مؤلم، وسخريته كوميديا سوداء.
مستكة في حارة برجوان
مستكة في «حارة برجوان»، ١٩٨٩، قواد خصوصى للمعلم سيد البرنس، حمدى غيث. ملابسه الملونة وطبقة صوته المتناعمة وأسلوبه غير السوى في تحريك جسده، علامات دالة تشير إلى مهنته التى تعنى الخضوع والإذعان مع سيده، وممارسة السيادة الآمرة الناهية مع صنائعه وتابعيه من المشاركين في جلسات المزاج. ليس مخنثا رخيصا مثل بعض محترفى المهنة، فهو يتبع أسلوبه الخاص ويتحرك في مساحة تعبر عن فهمه واستيعابه لآليات العمل غير التقليدى الذى يرتزق منه.
حارس العوامة عطية في «ليلة ساخنة»، ١٩٩٥، دور ينتمى إلى الإطار نفسه على نحو ما. يعترض طريق العاهرة حورية، لبلبة، عند دخولها العوامة، ولا يعبأ بما تقوله عن مجيئها بصحبة الأستاذ لمعي:«اسمعى بقى.. أنا لا أعرف لمعى ولا مطفي.. أنا هنا الجمرك.. وما فيش دخول من غير رسم.. تذكرة.. فيزيتا».
يعترض على القليل الذى تقدمه العاهرة، فهو لا يرضى بأقل من «حتة بخمسة». أقرب إلى مساعد قواد، يفيد من الإتاوة التى يفرضها كأنها العمل الإضافى. كيف لا يكون فاسدا في مناخ يستوطنه الفساد؟، وكيف لا يكون خبيرا واعيا بالقواعد والأعراف التى تحكم وتتحكم وينبغى الخضوع لها؟. تحتج حورية على ما تتعرض له من سرقة وتطالبه بالحماية، فيقول بثقة: «ربنا يعوض عليكِ.. مع السلامة يا أختي».
القواد ليس بالضرورة رقيعا يتقصع، فهو فحل صعيدى قوى أيضا. في الحالتين، يسعى إلى رزقه شأن الملايين من الفقراء الضائعين الذين يتحايلون قدر طاقتهم للاستمرار في حياة لا تمنحهم إلا أقل القليل.
الفقراء ليسوا كتلة واحدة متجانسة، وما أسهل نشوب الصراعات والمعارك بينهم حول الفتات الذى يقتاتون منه. في «اضحك الصورة تطلع حلوة»، ١٩٩٨، يصطدم المصور سيد غريب، أحمد زكي، مع المنافس فكرى الذى يتطفل على منطقة عمله في كوبرى قصر النيل، ويرفض الاحتكار لأن حرية العمل مكفولة للجميع. يحتد ويعلو صوته، ويتوهم انتصار منطقه المقنع، وعندئذ يتخلص من وجه الشجار المتجهم، ويعود في جزء من الثانية إلى وجه العمل المرح بغية استقطاب الزبائن. التحكم الانفعالى على هذا النحو لا يقوى عليه إلا ممثل قدير، وكذلك التراجع بعد أن تطوله الهزيمة بتدخل محبى سيد وأصدقائه.
الرزق الشحيح لا يقبل القسمة على اثنين، والعنف وحده أداة الحسم في المعارك الطاحنة بين الفقراء. الدور صغير لا يتجاوز دقائق قليلة، لكنه يمنح يوسف فرصة للكشف عن توهج موهبته التى لا تجد ما تستحق من الاهتمام.
عبدول في «فيلم ثقافى»، ٢٠٠٠، شخصية جديدة يقدمها يوسف ويبدع فيها. علاقة وثيقة مع الحمير بحكم عمله، وأنسنة الحيوان جزء أصيل من الملامح الراسخة في شخصيته. الجدير بالانتباه والاهتمام هو أسلوبه المتمكن في التعبير عن حالة استثنائية قد تغرى غيره من الممثلين بالمبالغة الكاريكاتورية، لكنه لا يفعل ولا يقع في الفخ.
كثيرة تستعصى على الحصر أدواره الصغيرة المتميزة المشابهة، وفاحش فادح ما يتعرض له من ظلم يهدر موهبته العظيمة المؤهلة لمكانة لا يصل إليها، لكن مصر هكذا، والسينما المصرية بالتبعية.
التفنن في إجهاض المواهب وإهدار طاقاتها الإبداعية، سمة مصرية في ساحة فن التمثيل وغيره من الساحات. يوسف عيد واحد من الضحايا، فهو رائع كادح لا يجنى من عمله الجاد المخلص إلا أقل القليل. ربما يكمن عزاؤه الوحيد في استمرار حياته بعد غياب، وربما يسعد في العالم الآخر بنجاح تراثه في صناعة السعادة والبهجة، والتخفيف من معاناة ملايين المشاهدين المقهورين بقوانين الظلم الذى يتفاقم ولا ينتهي.... ربما!.