السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

الجواري في قصور الخلافة "2"

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
حفلت قصور الكثيرين من حكام الدولة الإسلامية على امتداد العصور بالجوارى ومن كل لون وصنف وجنس، وبين جدران وأروقة القصور، نشب الغرام بين بعض الأمراء والخلفاء والسلاطين وبين الجواري، والحكايات التى تروى عنهم  وغرام الحكام والسلاطين لجواريهم كثيرة وعجيبة، وكتبوا أرق الكلمات التى تعبر عن عشقهم وولعهم بهن، ورغم الكثير الذى يقال عن هارون الرشيد أمير المؤمنين، فهو يعد من المعتدلين بالنسبة لغيره الذين غالوا في لعبتهم مع الجواري.


كان الرق فاشيًا في العالم القديم، إذ عرفه الفرس والرومان واليونانيون والهنود والصينيون، وعرف العرب الرقيق قبل الإسلام، وكانت أسبابه كثيرة أهمها الغزو، ولما ظهر الإسلام أصبح الرق مقصورًا على حالة واحدة فقط، وهى التى تكون في أعقاب الحرب ووقوع أسرى الأعداء من الرجال والنساء.
في زمن الفتوحات جعل للفاتحين أن يمنوا على الأسرى بالعفو، ولهم أن يقبلوا منهم «الفدية» ويخلوا سبيلهم، وقد رغب الإسلام في عتق الرقيق وإكرامه ومعاملته بالحسنى واحترام آدميته في آيات كثيرة جدا من كتاب الله، وأحاديث كثيرة جدًا من كلام الرسول.
والجارية في الشرع الإسلامى كما قال الفقهاء: هى كل امرأة أخذت أسيرة في الحرب، شريطة أن تكون غير مسلمة؛ لأنه لا يجوز لأى سبب من الأسباب أن تسبى المسلمة وتسترق.


عندما يذكر الرق، يتبادر إلى الأذهان الكلام عن الجواري، ومن لا يعرف تاريخ الجوارى والأدوار التى لعبنها في صناعة الأحداث والتواريخ والمؤامرات، وكذلك تهيئة وإعداد القادة والأمراء، وتشكيل دوائر الحكم وتغيير مجريات الأمور والسياسة، يتخيل أن الجوارى ما كانت إلا لعبة من ألعاب الجنس، وذلك ليس صحيحا على الإطلاق، إذ لا يعرف الكثيرون، أن عددا كبيرا من أمراء المؤمنين والخلفاء والسلاطين الذين حكموا الدولة الإسلامية في فترات تعد من أزهى عصورها، كانوا من أبناء الجواري!
فها هو ابن حزم يقول: لم ينل الخلافة في الصدر الأول من كانت أمه من الإماء (أى الجواري) سوى يزيد وإبراهيم بن الوليد، ولم ينل الخلافة في الدولة العباسية ممن كانت أمه من الحرائر سوى العباس السفاح والمهدى والأمين، ولم ينل الخلافة في دولة بنى أمية بالأندلس من كانت أمه حرة أصلا!
ومع ذلك فقد قامت الجوارى بأدوار عظيمة في تاريخ الدولة الإسلامية ورفعة شأنها، والذود عن حماها، وتركن بصماتهن، بأسمائهن وأعمالهن على كثير من وقائع ذلك التاريخ المجيد، إذ عبرت عن طريق هؤلاء الحضارة العربية من الأندلس إلى أوروبا في العصور الوسطى؛ حيث كانت أوروبا تتخبط في الظلام.
وليس أمراء المؤمنين فقط من أبناء الجوارى هم الذين صاغوا وقائع ذلك التاريخ، فهناك الخلفاء والسلاطين الذين ارتبطوا بالجوارى بصورة أو بأخرى.
وحتى الجوارى أنفسهن فالبعض منهن كتبن صفحات مشرقة ومضيئة في تاريخنا، وما زلنا نتغنى بها إلى اليوم، فجارية السلطان نجم الدين أيوب هى التى تصدت للحملة الصليبية بعد موت السلطان، وتولت قيادة الجيوش وقاتلت الغزاة وأسرت الملك لويس في المنصورة، وحددت الفدية المطلوبة لإطلاق سراحه وصارت حكايتها من الملاحم الشعبية في تراثنا، كانت شجر الدر جارية تحررت بالإسلام وصنعت التاريخ، وردد اسمها على المنابر، ودعوا لها ولقبوها بعصمة الدنيا والدين!
وأيضا حفلت قصور الكثيرين من حكام الدولة الإسلامية على امتداد العصور بالجوارى ومن كل لون وصنف وجنس، وبين جدران وأروقة القصور، نشب الغرام بين بعض الأمراء والخلفاء والسلاطين وبين الجواري، والحكايات التى تروى عنه وله وغرام الحكام والسلاطين لجواريهم كثيرة وعجيبة، وكتبوا أرق الكلمات التى تعبر عن عشقهم وولعهم بهن، ورغم الكثير الذى يقال عن هارون الرشيد أمير المؤمنين، فهو يعد من المعتدلين بالنسبة لغيره الذين غالوا في لعبتهم مع الجواري.
لقد انطوت صفحة الجواري، ولكن يبقى التاريخ وتبقى وقائعه التى نعود إليها ليس للتسلي، وإنما كما يقول الكاتب سعيد أبو العينين في كتابه «حكايات الجوارى في قصور الخلافة»، لكى نعى ونتدبر ونتفهم ما جرى في ذلك الزمان البعيد، لنستفيد منه في عالم اليوم.



بدأ الكتاب من قصر الخليفة المنصور، أكثر الخلفاء العباسيين، تشددًا في الحد من سلطان الجوارى وإضعاف شأنهن، والعمل على منع تسربهن إلى القصر إلا في أضيق الحدود وبعد فحص دقيق.
وحكى الكاتب عن الجوارى في قصور الخلافة الإسلامية، بدءا من قصر هارون الرشيد الذى قدمنا في الحلقة الأولى، ما ورد بالكتاب من حكايات أشهر الجوارى في قصره منها «الخيزران» التى كانت جارية لرجل من ثقيف، فقدم بها إلى مكة وباعها في سوق الرقيق. وجاءوا بها بعد ذلك إلى الخليفة المنصور في بغداد، الذى استحسنها ورأى أن يقدمها لابنه المهدى فنادى على غلام وقال له: اذهب بها إلى المهدى وقل له «إنها تصلح للولد».
في الفصل الثانى من الكتاب، يتناول الكاتب سعيد أبو العينين مصادر الجوارى وعددهن في المجتمع العربى في ذاك الزمن. يقول الكتاب إن أبرز مصادر الجوارى كان من الأسرى من النساء إذ كن يعتبرن من سبايا الحرب.
وإذا عدنا إلى زمن الفتوحات الإسلامية، وإلى ما أورده المؤرخون عن عدد الجوارى في المجتمع العربى، فسوف تستوقفنا تقديرات ابن الأثير التى تقول بأن عددهن كان يقدر بمئات الألوف!
ووفقا للكتاب؛ فإن ابن الأثير يذكر أن غنائم موسى بن نصير فاتح المغرب سنة ٩١ هجرية، قد بلغت الألوف من السبايا، وأنه بعث خمسة إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك، وقيل إن موسى بن نصير عندما جاء إلى دمشق استقدم معه ثلاثين ألفًا من النساء القوطيات.
وبعد انتهاء زمن الفتوحات، اعتمد العرب على «النخاسين» تجار الرقيق الذين كانوا يشترون الجوارى من أوروبا، وينتقلون إلى روسيا أحيانا، ويأتون بالجوارى السلافيات والجرمانيات اللاتى عرفن في بلاد العرب باسم «الصقليات»، وكانت سوقهن رائجة لبياض بشرتهن وطول أجسامهن وجمالهن.
ويذكر المسعودى أن بعض النخاسين توغلوا في بادية تركستان واشتروا الفتيات من آبائهن ونقلوهن إلى «سمرقند»؛ حيث جرى تربيتهن وإعدادهن إلى أن برزت معالم الجمال فيهن على النحو الذى كان يحب أسياد بغداد والبصرة ودمشق والفسطاط فاشتروهن بأغلى الأثمان.
وكان بعض الولاة يرسل ضمن خراج الإقطاع في البلاد التى يحكمونها مجموعة من السبايا إلى الخليفة، ومن هؤلاء ابن طاهر الذى أهدى الخليفة المتوكل ٢٠٠ وصيفة!
يتناول الكتاب أنواع الجوارى، ويورد ما جاء في رسالة ابن بطلان التى كتبها في تصنيف الجوارى، إذ يقول إن للهنديات حسن القوام، وسمرة الألوان وحظ وافر من الجمال مع صفرة وصفاء بشرة وطيب نكهة، ولكن الشيخوخة تسرع إليهن وهن يصلحن للولد – أى لإنجاب الأولاد.
أما القندهاريات فهن في معنى الهنديات والسنديات، ينفردن بدقة الخصور وطول الشعر.
والبربريات (أى نساء البربر) مطبوعات على الطاعة نشيطات للخدمة ويصلحن للتوليد لأنهن أحدب الإناث على الأولاد، وإذا اجتمعت للبربرية جودة الجنس وشكل المدنيات وخنث المكيات وآداب العراقيات؛ فإنها تستحق أن توضع في العيون، وأن تخبأ في الجفون.
والزنجيات مساوئهن كثيرة، وكلما زاد سوادهن قبحت صورهن وتحددت أسنانهن، وقل الانتفاع بهن، ولكن ليس في خلقهن الغم، في فالرقص والإيقاع فطرة لهن، وطبع فيهنّ.
والحبشيات لهن نعومة الأجسام ولينها وضعفها، ولا يصلحن للغناء أو الرقص. والبجاويات حسنات الوجوه ناعمات البشرة وهن جوارى متعة!
والتركيات يجمعن بين الحسن والبياض والنعومة وعيونهن مع صفرها ذات حلاوة، وقدودهن ما بين الربع والقصر، والطول فيهن قليل، وهن كنوز الأولاد ومعادن النسل.
والروميات بيض شقر طوال الشعور زرق العيون، عبيد طاعة وموافقة وخدمة ومناصحة ووفاء وأمانة. أما الأرمنيات فلهن أقبح الأوصاف وأشنع الصفات.
وعن أثمان الجوارى يقول الكتاب تختلف أثمان الجوارى باختلاف أجناسهن والفنون التى يجدنها وفى العصر الذى يعشن فيه. ويذكر أن بعض الخلفاء كان يدفع عشرات الألوف من الدراهم والدنانير لشراء جارية. ويقول المؤرخون –وفقا للكتاب- إن سعيد أخو سليمان بن عبد الملك اشترى مغنية مشهورة بحسن غنائها وروعة جمالها بمليون درهم أى ما يعادل سبعين ألف دينار.
واشترى يزيد بن عبد الملك الأموى المغنية سلامة بعشرين ألف دينار. واشترى هارون الرشيد إحدى جواريه بمائة ألف دينار.
ورغب محمد الآمين يومًا (وهو ابن هارون الرشيد) أن يشترى جارية اسمها «بذل» من جعفر بن العادي. لكنه رفض فملأ قاربًا ذهبًا وأرسله إليه، لكنه لم يقبل وفضل الاحتفاظ بالجارية.
ويورد الكتاب ما أشار إليه الجاحظ في (رسالة القيان)؛ حيث جارية تعرف باسم «حبشية» بيعت بمائة وعشرين ألف دينار. وقال إن اسم «حبشية» أطلق عليها لحفظها من الحسد والعين الشريرة.
يقول الكتاب إن أثمان ومكانة الجوارى المثقفات في قصور الخلافة تفوق مكانة وأثمان غيرهن ممن لا يتمتعن بالأدب وفنون الشعر والثقافة، إذ كان أصحاب الجوارى المثقفات يفخرون بهن كما يفخر كل إنسان بما يملك من ثمين المتاع والنفائس. وقد ورد في كتاب (المحاسن والأضداد) أن أمير المؤمنين هارون الرشيد أرسل إلى الأصمعى ليعرض عليه جاريتين أهديتا إليه فوجد أن أحداهما لا تحتاج إلى مزيد من العلم، فهى كاملة الآداب فصيحة اللسان وتروى الأشعار وتحفظ القرآن والحديث وتجيد نظم الشعر.
وكثيرات هن الجوارى اللواتى كن يجارين الشعراء في الارتجال يقارعنهم مقارعة الند للند ويكتب لهن النصر والتفوق.
وتعد الجارية «عنان» واحدة من هؤلاء، وقد عاصرت الشاعر أبو نواسوكان لها به صلات وثيقة فكان يتردد مع رفاقه على منزل صاحبها، فيجلسون إليها ويتناشدون فتشاركهم في النظم أحيانا.
كما حققت الجارية «سلامة» شهرة واسعة في الغناء وعندما سمعها عبد الرحمن بن عبد الله المعروف بالقس لزهده، شغف بها ونظم فيها الأشعار، وقال في وصف صوتها: ألم ترها، لا يبعد الله دارها/ إذا اطربت في صوتها كيف تصنع؟/ تمد نظام القول ثم ترده/ إلى صلصل من صوتها يترجع.
وقال إن يزيد بن عبد الملك أمير المؤمنين كان مغرما بالجارية «حبابة»، وأن هذا الغرام قد أكسبها شهرة واسعة، خاصة عندما قال فيها قصائد الشعر التى عن عشقه وغرامه. ومنها قوله: أبلغ حبابة، أسقى ربعها المطر، ما للفؤاد سوى ذكراكم وطر.
وقيل إن أخو يزيد واسمه «مسلمة» دخل عليه يوما وقال له: يا أمير تركت الظهور للعامة، والشهود للجمعة، واحتجبت مع هذه الأمة (أى الجارية).
فخجل يزيد وظهر للناس وأهمل الجارية حبابة. لكن حبابة لم تستسلم وطلبت من الشاعر الأحوص أن يكتب أبياتا يرد بها على ما قاله مسلمة لأخيه يزيد. فكتب الشاعر الأحوص يقول: ألا لا تلمه اليوم أن يتبلدا/ فقد منع المحزون أن يتجلدا/ إذا أنت لم تعشق ولم تدرى ما الهوى/ فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا/ هل العيش ألا ما تلذ وتشتهي/ وإن لام فيه ذو الشنان وفندا.
وأخذت حبابة هذا الشعر وراحت تغنيه. فلما سمعها يزيد ضرب الأرض، وقال: صدقت يا حبابة.. على مسلمة لعنة الله! ثم عاد إلى سيرته الأولى معها.
وعن الأدوار التى قامت بها الجوارى في تاريخ الدولة العباسية التى يحكى عنها الكتاب كثيرة ومتعددة فقد خدعت الجارية أم الخليفة المقتدر كل الذين عملوا على تولية ابنها، وكان لا يزال صبيا صغيرا في الثالثة عشر من عمره، ظنا منهم أن بوسعهم التصرف باسمه في شئون الخلافة كما يشاءون لصغر سنه؛ فإذا بهم يواجهون موقفا صلبا من أمه التى كانت جارية رومية. فقد قبضت على شئون الدولة بحزم وحنكة مدة ربع قرن وهى أطول مدة تولى فيها خليفة عباسى الحكم آنذاك.
وقد تعرض الخليفة للخلع مرتين فيها خلال هذه المدة، لكن أمه استطاعت أن تعيده إلى كرسى الخلافة في مواجهة خصومه، وإن كانت حياته قد انتهت بعد ذلك بالقتل.
أما الجارية الشيرازية التى اسمها «حسن» فقد لعبت دورا مثيرا في البلاط أيام الخليفتين «المتقى والمستكفي» فهى التى سعت في إقصاء الأول عن الخلافة وهو «المتقى بالله». ولم تكتف بذلك فقد أوزعت إلى غلامها واسمه السندى بأن يقوم «بقلع عينيه»، عندما أحجم القواد عن فعل ذلك. وقام الغلام بالمهمة التى كلفته بها الجارية! ولم يقف دور الجارية «حُسن» عند ذلك، فقد تسلطت على الخليفة الثانى وهو «المستكفى بالله» حتى أقضت مضجعه، ثم قضت عليه فيما بعد.
ويذكر التاريخ في الحديث عن أبناء الجوارى الذين تولوا الخلافة أن أحدهم هو «الخليفة الطائع» قد اندثرت فيه جميع ملامح الجنس العربي. فكان شبيهًا بسكان المناطق الشمالية الباردة في أوروبا. فهو حسب وصف المؤرخين «أبيض، أشقر البشرة والشعر، أزرق العينين، طويل القامة، حسن الجنس، شديد القوة».