السبت 20 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

البوابة القبطية

"لعلكم تعقلون".. حوار أديان في العصر الأول من الخلافة العباسية

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تغلغل القس الدكتور وجيه يوسف في كتابه الصادر حديثا «لعلهم يعقلون.. نصوص من التراث العربى الإسلامى – المسيحي» في الجذور العميقة لحوار الأديان خلال مساحة واسعة من جدل العيش المشترك الذى نحتاج لاسترجاعه واستعادته للقبض على لحظات من النور التى تساعدنا على السير فى درب الحاضر وتصل بنا إلى مستقبل أفضل.
يقول الدكتور القس يوسف فى كتابه، ظهر الإسلام فى المنطقة العربيّة فى القرن السّابع للميلاد، وكانت قرينته قرينةَ تعددٍ دينيٍّ وعرقيٍّ بامتيازٍ. وكان المسيحيّون يشكّلون غالبيّة سكان المنطقة، إلى جوار عددٍ من التّجمعات اليهوديّة والكثير من الدّيانات الشّرقيّة القديمة. وجد المسلمون أنفسهم فى قلبِ العديد من الحوارات الدّينيّة، وبخاصةٍ مع المسيحيّين، أهلِ الكتاب.
ولعب التّشابهُ الكبير بين الإسلام والمسيحيّة، وفى نفس الوقت الاختلاف الجوهريّ بينهما، دورًا مهمًّا فى هذه الحوارات، لنأخذ الكلام عن الله — تعالى— مثلًا. يؤمن المسيحيّون بوحدانيّة الله، وهم لا يعبدون مع الله آخرَ. ولكنّ مفهوم وحدانيّة الله فى المسيحيّة ليس إيمانًا بوحدانيّة مطلقة. فالمسيحيّون يؤمنون بأنّ الله الواحد موجودٌ، فى ثلاثة أقانيم. وكلمة أقنوم هى الصّيغة العربيّة للكلمة السُّريانيّة (قنوما). وبحسب اللّغة اليونانيّة، فكلمة أقانيم (ὑπόστασις) تعنى الشّخص القائم بنفسه، غير المحتاج إلى غيره فى ثباته. ولاهوتيًّا، تعنى ما يقوم به الجوهرُ الإلهيُّ.
وهكذا، يؤمن المسيحيّون أنّ جوهر الله الواحد يقوم على وجود أقنوم (شخص) الآب، وأقنوم (شخص) الابن، وأقنوم (شخص) الرّوح القدس. ليس للأقانيم، بحسب الفكر المسيحيّ، سبقُ وجودٍ بالمَرّة. ولا هم مختلفون عن بعضهم البعض فى الجوهر.
كذلك، يؤمن المسيحيّون بأنّ للأقانيم أدوارًا مختلفةً، لكنّها مكملّة لبعضها البعض. فأقنومُ الآب، يختصّ بعمل الخلق؛ بينما يقوم أقنومُ الابن (السّيّد المسيح، كلمة الله الأزليّ) بعمل فداء الإنسان؛ ويسكن أقنومُ الرّوح القدس (روحُ الله الأزليّ) فى الكنيسة معلّمًا إيّاهًا، ومرشدًا لها.
وقد عبّر المسيحيّون، قبل الإسلام، عن عقيدة وحدانيّة الله، وتثليث أقانيمه، باستخدام مصطلحات فلسفيّةٍ يونانيّةٍ؛ ولكن بعد أن حلّ الإسلام، وبعد وصول الكتابات الفلسفيّة اليونانيّة إلى العرب، على يدّ المسيحيّين العرب (والسُّريان خاصةً)، وظهور ما يمكن تسميته «الفلسفة العربيّة،» أخذ المسيحيّون العرب، والّذين استعربوا، باستخدام مصطلحات عربيّة مبينة للتّعبير عن هذه العقيدة المهمّة فى الفكر المسيحيّ، فقالوا بأنّ جوهر الله واحدٌ، لا شكّ. الله تعالى موجودٌ أزليًّا، وناطقٌ أزليًّا، وحيٌّ أزليًّا. صفةُ الوجود الأزليّ هى أقنوم الآب؛ وصفةُ النّطق الأزليّ هو أقنوم الابن، المسيح كلمة الله الأزليّ؛ وصفةُ الحياة الأزليّ هو أقنوم الرّوح القدس. هكذا تقول العقيدة المسيحيّة بشأن وحدانيّة الله وتثليث أقانيمه.
ويؤمن الفكر الإسلامى بوحدانيّة الله كأمرٍ جوهريٍّ، لا مساومةَ عليه. فالمسلمُ يلزم عليه الإقرار والاعتراف الشّفاهيّ والعقيديّ بأنّ الله واحدٌ لا شريكَ له فى الوجود ولا فى الرّبوبيّة ولا فى الأزليّة. إنّ تفرّد الله وحده بالعبادة لهو لبُّ الفكر الإسلاميّ. ويؤمن المسلم بأنّ الله واحدٌ بشكلٍ مطلقٍ فى كيانه وأفعاله وصفاته. ولا يقدّم المسلم العبادة إلّا لله — تبارك اسمُه. وليس خافيًّا أنّ الشّهادة الإسلاميّة (أشهدُ أنّ لا إلهَ إلّا الله، وأشهد أنّ محمّدًا رسولُ الله) نصفُها الأوّل توكيدٌ على وحدانيّة الله وتفرّده بالرّبوبيّة. ولذا، لا يمكن أن يقوم الإسلام بدون هذه العقيدة الجوهريّة.
هكذا، يتّفق المسيحيّون والمسلمون، ويختلفون أيضًا فى ذات الوقت، بشأن عقيدة توحيد جوهر الله، أو قُلْ طريقة صياغة تعبيرهم عن عقيدة توحيد جوهر الله عزَّ وجلَّ.
فكان من شأن المشتركات بين الدّيانتَيْن، الّتى صارت أيضًا عقائد مختلفا عليها، أن تثير الكثير من النّقاشات والمباحثات الدّينيّة بين أتباع الدّيانتَيْن. وصلت هذه النقاشات ذروتَها إبّان العصر الأوّل من الخلافة العبّاسيّة، وقت انخرط المسيحيّون والمسلمون واليهود والصّابئة وغيرهم من أتباع الدّيانات فى نقاش أمورِ عقائدهم بحرّيّةٍ واحترامٍ شديدَيْن.
المجالس العباسية
ويضيف الدكتور وجيه قائلا: لقد كان للمجالس العبّاسيّة الدّورُ المحوريّ فى إثراء هذه الحوارات. فى المجالس، كان المختلفون يجتمعون، ويأخذ كلٌّ بالحديث عن صحّة مذهبه ومعتقده. لم يكن هناك تهديدٌ ولا تسفيهٌ. كانت الكلمة الأولى لحكم العقل، ولقياس المنطق! نقرأ، على سبيل المثال، فى معجم سِيَر العرب الإسـﭙـان، الّذى يرقى إلى القرن الحادى عشر، والّذى وضعه أبوعبدالله بن محمّد الحُمَيديّ (ت. 1095م) عن رجلٍ اسمُه عمر أحمد بن محمّد بن سجديّ أنّه «زار بغداد فى نهاية القرن العاشر، بُعيد وفاة الفيلسوف والمدافع المسيحيّ يَحْيَى بن عديّ (ت. 974م). ففى أثناء إقامته هناك، تردّد «عمر» مرّتَيْن على مجالس بعض مشاهير المدينة من العلماء المسلمين، لكنّه أقسم بأنّه لن يحضرها ثانيةً. فقد صُدِم مِمّا وجده فيها. وورد عنه أنّه قدّم الوصف التّالى لخبرته:
أمّا أوّل مجلس حضرته فرأيت مجلسًا قد جمع الفرق كلّها؛ المسلمين من أهل السّنة والبدعة، والكفّار من المجوس، والدّهرية، والزّنادقة، واليهود، والنّصارى، وسائر أجناس الكفر، ولكلّ فرقةٍ رئيسٌ يتكلّم على مذهبه، ويجادل عنه، فإذا جاء رئيسٌ من أيّ فرقةٍ كانت، قامت الجماعةُ إليه قيامًا على أقدامهم حتّى يجلس، فيجلسون بجلوسه، فإذا غَصَّ المجلسُ بأهله، ورأوا أنّه لم يبق لهم أحدٌ ينتظرونه، قال قائلٌ من الكفار: «قد اجتمعتم للمناظرة، فلا يحتجّ علينا المسلمون بكتابِهم، ولا بقول نبيِّهم، فإنَّا لا نصدقُ بذلك، ولا نقرُّ به، وإنّما نتناظر بحجج العقل، وما يحتمله النّظرُ والقياسُ». فيقولون: «نعم، لك ذلك». قال أبو عمر: «فلمّا سمعت ذلك لم أعد إلى ذلك المجلس، ثمّ قيل لى ثَمَّ مجلس آخر للكلام، فذهبت إليه، فوجدتهم على مثلِ سيرةِ أصحابهم سواء، فقطعتُ مجالسَ أهل الكلام، فلم أعد إليها.
صلاة
أثمرت هذه الحوارات فى ظهور العديد من المدارس الكلاميّة الإسلاميّة، وكان للمعتزلة دورٌ مهمّ فى صياغة الفكر الإسلاميّ فى خلافة العبّاسيّين، وفى الوقت ذاته برز نجم العديد من المؤلّفين العرب المسيحيّين الّذين أخذوا على عاتقهم شرحَ العقيدة المسيحيّة بمعطيات الفكر الكلاميّ الّذى اشتركوا فيه مع أقرانهم المسلمين واليهود. وقد تلوّنت تلك النّصوص بصبغةٍ كلاميّةٍ، واضحةٍ وضوحَ الشّمس فى كبد السّماء. انظر مثلًا كيف وضع الكاتب، مجهول الاسم، فى ديباجة كتابه عن وحدانيّة الله، هذه الصّلاة:
اللّهمّ، برحمتك توفّقنا للصّدق والصّواب! الحمد لله الذى لم يكن شيءٌ قبلَه، وكان قبلَ كلّ شيءٍ، الذى ليس شيءٌ بعدَه، وهو وارثُ كلّ شيءٍ، وإليه مصيرُ كلّ شيء، الذى حفظ بعلمه علمَ كلّ شيءٍ، ولم يسع لذلك إلا عقلُهُ، الذى إلى علمه انتهى كلّ شيءٍ، وأحصى كلّ شيءٍ بعلمه. نسألك، اللّهمّ، برحمتك وقدرتك، أن تجعلنا ممَنْ يعرفُ حقّك، ويتّبعُ رضاك، ويتجنّبُ سُخطك، ويسبّحُ بأسمائك الحسنى، ويتكلّمُ بأمثالك العليا. أنت الرّاحم، الرّحمن، الرّحيم. على العرش استويت، وعلى الخلائق عليت، وكلّ شيءٍ مليت. تَخِيرُ، ولا يُخَارُ عليك، تَقضي، ولا يُقضى عليك، تستغنى عنّا، ونفتقر إليك. قريبٌ لمن دنا منك، مجيبٌ لمن دعاك وتضرّع إليك. فأنت، اللّهمّ، ربّ كلّ شيءٍ، وإلهُ كلّ شيءٍ، وخالقُ كلّ شيءٍ. افتح أفواهنَا، وانشر ألسنتَنا، وليّن قلوبنَا، واشرح صدورنَا، لتسبيح اسمك الكريم، العليّ العظيم، المبارك المقدّس. فإنّه لا إلهَ قبلك، ولا إلهَ بعدك. إليك المصير، وأنت على كلّ شيءٍ قدير.
ويشعر قارئ هذه الكلمات أنّ الكاتبَ، ولا شكّ، مسلمٌ. فالصّلاة نفسُها تمتلئ بتعبيرات إسلاميّة، بل قرآنيّة، مباشرة. نقرأ، مثلًا، عبارات مقتبسة حرفيًّا من نصّ القرآن الكريم: مثل «اشرح صدورَنا، وأسمائك الحسنى.» كما أنّ هناك العديد من التّعبيرات الإسلاميّة الّتى لا ترد فى نصّ القرآن الكريم بطريقةٍ مباشرةٍ. ثمّ إنّ الصّلاة بشكلٍ عامٍّ، سواء احتوت على اقتباسٍ مباشر من نصّ القرآن الكريم، أو شملت على إشارات ضمنيّة مأخوذة من الفكر الإسلاميّ، إنّما هى مصطبغةٌ بصبغةٍ إسلاميّةٍ واضحةٍ، ومتلونةٌ مفرداتُها بالطّريقة الّتى يصلّى بها المسلمون حتّى يومنا هذا! كما سبقت الإشارة، فقد شهد القرن الأوّل من العصر العبّاسيّ حركةَ تفاعلٍ منقطعة النّظير بين علماء اللّاهوت المسيحيّ والمفكرين المسلمين.
والحقُّ يُقَالُ، لقد كان هذا العصر من أغنى الفترات الّتى مرّ بها تاريخُ الشرق الأوسط عامةً، والإسلام خاصةً. فمن ناحيةٍ، كان الشّرق الأوسط قد شهد ثورةً أكاديميّةً تحت حكم العبّاسيّين، والّذين كثيرًا ما شجّعوا العلم. وكان منطقيًّا أنّ يُحْدِثَ هذا الانفتاح الفكريّ احتكاكًا عقائديًّا بين أتباع الدّيانات المختلفة، وبخاصةٍ المسيحيّة والإسلام، نظرًا لمحوريّة الكرازة فى المسيحيّة، والدّعوة فى الإسلام.
فأخذ بعضُ علماء المسلمين بتأليفِ كتبٍ حملت تفنيدًا عقليًّا ونقليًّا ضدّ العقائد النّصرانيّة. ومن أقدم هذه الأعمال: كتاب الرّدّ على النّصارى للإمام الزّيديّ القاسم بن إبراهيم (ت. 860م)، وكتاب الرّدّ على أصناف النّصارى لعليّ بن ربّن الطّبريّ (ت. 870م؟)، والرّدّ على النّصارى للجاحظ (ت. 869م)، ورسالة أبى عيسى الورّاق (ت. 861م؟) فى تفنيد فرق النّصارى، وغيرهم. وفى الوقت الّذى تَعَنْوَنَت فيه التّفنيدات الإسلاميّة بـ: «الرّدّ،» جاء دور المسيحيّين العرب الذين «ردّوا» على «الرّدّ،» وجعلوا «كتاب البرهان» عنوانًا لردودهم.
ومن المعروف أنّ عددًا كبيرًا من اللّاهوتيّين المسيحيّين العرب استخدموا كلمة «البرهان» عنوانًا لكتاباتهم، منهم، مثلًا: بطرس البَيْترَأسيّ (منتصف القرن التّاسع)، يَحْيَى بن عديّ (ت. 974م)، إيليّا النُصَيْبِيِنيّ (ت. 1046م) إِيشُوُعَاب بن مَلْكُون (ت. 1049م)، وعمّار البصريّ (القرن التّاسع). وممّا لا شكّ فيه فإنّ سورة البقرة والآية 111 كانت فى ذاكرة هؤلاء اللّاهوتيّين العرب المسيحيّين. وكأنّ بهم يقولون: «كُتُبُنَا بُرْهَانُ صِدْقِنَا».
محتوى الكتاب
ويقول الدكتور وجيه هكذا جاءت فكرة الكتاب الحالى الذى يحتوى على 4 نصوص كلاميّة: كتاب البرهان لعمّار البصريّ (ت. القرن التّاسع)؛ والرّدّ على النصارى للإمام الزّيديّ القاسم بن إبراهيم (785م-860م)؛ وميمر الدين القويم لثيودورس أبى قرّة (ت. ب. 825م)؛ وأخيرًا الرّدّ على أصناف النّصارى لعليّ بن ربّن الطّبريّ (780م-860م).
ويضيف قمت باختيار هذه النّصوص لأنهّا نصوص أوّليّة تظهر كيف تحاور المسيحيّون والمسلمون بشأن الدّين، فى أمجد لحظات التّاريخ العربيّ-الإسلاميّ، وعصره الذّهبيّ. وهناك بالطّبع نصوصٌ أخرى، غير أنّنى رأيت أن أختار نصّين يعبران عن الموقف الإسلاميّ من المسيحيّة، ونصّين يتكلّم فيهما لاهوتيّان عربيّان مسيحيّان عن العقيدة المسيحيّة.
حلقة وصل
وقال إنّنى إذ أضع هذه النصوص فى كتابٍ واحدٍ آملًا أن يكون حلقةَ وصلٍ، وفرصةً للتّقارب والتّفاهم بين المسيحيّين والمسلمين، وأحبّ أن أنوّه إلى أنّ الكثير ممَنْ يستشرقون المستقبل يديرون ظهورهم للماضى بحجّة الإبداع والتخلّص من نيرٍ ربما كان ثقيلًا. يرى هذا الفريق من النّاس أنّ تثبيت النّظر على المستقبل وحده يكفى ليجعل المرء يخرج بنظرةٍ إبداعيّةٍ. وعلى النقيض، هناك فريقٌ آخر من قرّاء المستقبل، حين ينظرون للماضي، نجدهم مستغرقين فيه، جالسين يبكون الأطلال على حلاوة الأيام الخوالي.
وفى حكمي، الفريقان مخطئان! خطأُ الفريق الأوّل يتمثّل فى إهمال التاريخ وعدم تقديره؛ وخطأ الثّانى هو الحياة فى الماضي. إنّنا نحتاج إلى توظيفٍ نقديٍّ للتّاريخ. فمن ناحية، نحتاج أن ننظر بعين التّقدير لقيمة التّاريخ فى التّطلّع نحو المستقبل؛ ومن ناحية أخرى لا يجب أن نحبس أنفسنا فى أحداث هى الآن تاريخٌ ولّى.
ويضيف إنّ القراءة النقديّة المتوازنة للتّاريخ تساعد فى صياغة المستقبل؛ إذ تستخلص من حوادث تاريخيّة دروسًا نافعةً فى بناء المستقبل. وانطلاقًا من هذا الاقتناع، فإنّى أرجو أن أعود للحديث عن هذه الصورة من الماضي، والّتى أرى أنّ عناصرَها مهمةٌ فى تفكيرنا فى مستقبل العلاقات الإسلاميّة -المسيحيّة فى منطقتنا العربيّة.
فريق واحد
لم يكن ممكنًا أن تكون العلاقات الإسلاميّة - المسيحيّة على النّحو السّالف الذّكر إن لم يشترك المسلمون والمسيحيّون معًا كفريقٍ واحدٍ فى بناء مشروعٍ نهضويٍّ لبناء الحضارة العربيّة، والّتى انبهر بها العالم آنذاك. وكان هذا المشروع هو بيت الحكمة، التى كانت أوّلُ مدرسةِ ترجمةٍ متخصّصةٍ، اهتمّ العاملون فيها بنقلِ التّراثِ الفكريّ والفلسفيّ اليونانيّ والسُّريانيّ والفارسيّ إلى اللّغة العربيّة.
وثمّة آراءٌ متباينة حول المؤسّس الحقيقيّ لبيت الحكمة، إذ يحاجّ البعض قائلًا إنّ الخليفة العبّاسيّ هارون الرّشيد (809م)، هو الذى وضع النّواة الأولى لـبيت الحكمة فى بغداد، حيث أسّس ما عرف باسم (خزانة الحكمة). لكن من المعروف أنّ نشاط بيت الحكمة بلغ مجدَه فى عصر الخليفة عبدالله المأمون (786م-833م)، ابن الخليفة المهديّ، والذى كان يميل لمذهب المعتزلة، القائلين بوجوب التّوفيق بين النّصوص الدّينيّة وبين أحكام العقل.
ويُرجّح أن يكون الخليفة المأمون قد أسّس بيت الحكمة بعد أن رأى أرسطو فى حلمٍ، كما يورد ابن النديم فى الفهرست. رأى الخليفة أنّ تأسيس هذه المدرسة المتخصّصة فى نقل علوم اليونان وغيرهم سيساهم، دون شكّ، فى إعلاء شأن العلم، وبناء الدّولة على أسس علميّة، منفتحة على الآخر، وعلى علومٍ ومعارف جديدة. وهكذا كان الحال، إلى أن دمّر المغول بغداد عام 1258م!
العرب المسيحيون
ويؤكد الدكتور القس وجيه أنه من المعروف تاريخيًّا أنّ العرب المسيحيّين كانوا رواد حركة التّرجمة فى بيت الحكمة. يكفى أن نذكر أسماء مثل حُنَيْن بن إسحاق، وإسحاق بن حُنَيْن، وحُبَيْش بن الحسن الأعسم الدّمشقيّ، واسطفان بن باسيل، وابن البطريق، وجاورجيوس بن جبرائيل، ويَحْيَى بن ماسويه، وقسطا بن لوقا، ويَحْيَى بن البطريق، وديونيسيوس يعقوب الصّليبيّ، ويَحْيَى بن هارون، ويَحْيَى بن عديّ، وعبدالمسيح عبدالله بن ناعمة الحمصيّ، وغيرهم، للدّلالة على هذا الدّور المحوريّ. ويعدّ ﻛﺘﺎب الرّسالة فى تدبير ﺳﻔﺮ الحجّ من نوادر الأمور فى هذا المجال. وضع هذا الكتاب اللّاهوتيّ والمترجم والطّبيب المسيحيّ قسطا بن لوقا بعد أن طلب الوزير العبّاسيّ أبو محمد اﻟﺤﺴﻦ ﺑﻦ مَخْلد ﺑﻦ الجرّاح (882-824م) منه أن يرافقه فى الحجّ. ولأسبابٍ غير معلومة تاريخيًّا، اعتذر قسطا عن السّفر، ووضع هذا الكتاب، الذى يعدّ أوّل مرجع طبيّ يختصّ بالعناية الصّحيّة للحجيج.
نرى، إذًا، لاهوتيًّا مسيحيًّا مدعوًّا لمرافقة صديقٍ له للحجّ، ونراه أيضًا يؤلّف عملّا عن الرّعاية الصّحيّة للحجيج! ولكن ما يهمّ فى هذا الشّأن هو أنّ المسلمين والمسيحيّين، وكذلك الصّابئة (مثل ثابت بن قرّة) واليهود، كلّهم عملوا على بناء الحضارة العربيّة. إذًا، واضحٌ أنّ المسلميّن والمسيحيّين، بشكلٍ خاصّ، قد صرفوا جهدًا كبيرًا فى مشروع بناء الشّرق العربيّ؛ وأنّهم، مع إدراكهم التّام، للخلاف العقيديّ بين ديانتيهما، لم يروْا أنّ عقائدهم، مع تباينها، يجب أن تقف حائلًا فى وجه هذا المشروع. لقد صار جلُّ همّهم إعلاء شأن أمّتهم، وكان شغفهم متمركزًا حول اقتناء المعارف وتطبيقها.
التوحد للمستقبل
واليوم إذ نتطلع نحو «مصر الجديدة» التى تحوى كلّ شعبها دون تفرقة مبنيّة على الدّين، أو العرق، أو الجنس، أو اللّون، علينا تحديد أطر مشروعٍ نهضويّ، يكون معادلًا فى عظمته لبيت الحكمة، ليمكّن مصر من العبور نحو مستقبل مشرق للجميع. إنّنى آمل أن نتوحّد جميعًا حول رؤية نحققها، ومشروع ننجزه لخير البلاد وفائدة العباد. ولكن يجب علينا أوّلًا أن ندرك أنّ الاتّفاق على مشروع نهضويّ لا يتأتّى إلّا من خلال الفهم المشترك. ويستلزم التّعايشُ الفهمَ، فمَنْ لا يتعارفون لا يتعايشون؛ وإنْ تعايشوا عن اضطرارٍ، دائمًا ما تكثر بينهم المشاحنات والصّراعات. وعلى العكس من ذلك، فإنّ مَنْ يفهمون أنفسَهم، ويدركون مظاهر قوّتهم، ونقاط ضعفهم هم أجدر النّاس على العيش المشترك. ولا أرى فى مجال الحديث عن فهم النّفس أيّ تقصيرٍ من جانب المسلمين أو المسيحيّين؛ فتراثنا الشّرقيّ مليءٌ بالكتابات الدّينيّة الإسلاميّة والمسيحيّة. لكنّ التّقصير هو فى فهم الآخر، فالمسلمون مقصرّون فى فهم المسيحيّة؛ والمسيحيّون مقصّرون فى فهم الإسلام.
وأكبرُ دليلٍ على هذا هو أنّ السّواد الأعظم من معلومات كلّ طرفٍ عن عقيدة الآخر إنّما هو حصيلة معرفة شعبيّة فلكلوريّة،غالبًا ما تكون سطحيّةً ناقصةً. لذا، إن أردنا النجاح للحوار الإسلاميّ-المسيحيّ فعلينا بالفهم المشترك. جيّدٌ للإنسان أن يفهم العقيدة المغايرة حسبما ينادى بها الآخر، وليس من منطلق «القصص» الفلكلوريّة. ليس المقصود، بالطّبع، هو ترك العقيدة، أو التّحول عنها لدينٍ آخر، بل يعبّر الإنسان بقبوله للآخر عن ثباته فى عقيدته، وعن قناعةٍ مفادها أنّ معرفة الله هى رحلةُ عمرٍ، يتعلّمُ فيها المحدودُ عن اللّامحدود، ويحاول شبيهُ كلّ البشر أن يفهم مَنْ «ليس كمثله شيءٌ» (سورة الشّورى 11).
إنّ محو الأميّة الدّينيّة سيساعد فى فهم الآخر، بلا شكٍّ، ساعتها، سيدرك المسلمون والمسيحيّون أنّهم باحتياجٍ لتطوير لغة خطابهم الدّينيّ لتصبح لغة تعبّر عن فهم ذاتيّ واستيعاب للّغير. ولنا فى نصّ الصّلاة سالفة الذّكر أعظم نموذج للّغةٍ سياقيّةٍ تصالح بمفرداتها بين الإيمان والواقع، وبين الثّابت والمتغيّر. إنّنا نحتاج لأن تكون لغةُ خطابنا الدّينيّ مفهومةً عند الآخر.
إن أدرك المسلمون والمسيحيّون أهميّة التّوافق على المصطلحات، وخاصة الدّينيّة منها، لصار التّفاهم بينهم مجديًا، ولصار حوارهم نافعًا. وعندئذٍ، لن يتوّقف الكثيرون عند المصطلحات لتعريفها، أو الجدل حول معانيها غير المكتوبة، بل سوف ينطلقون منها إلى ما هو أعمق: إلى العمل، إلى مشروع جماعيّ نهضويّ.
أخيرًا، قال الله تعالى فى التّوراة: «الْحَدِيدُ بِالْحَدِيدِ يُحَدَّدُ، وَالإِنْسَانُ يُحَدِّدُ وَجْهَ صَاحِبِهِ» (سفر الأمثال 27: 17). إنّ قدرَنا، بالمعنى الإيجابيّ للكلمة، هو أن نعيش كمسلمين ومسيحيّين فى الشّرق العربيّ، كإخوةٍ نعكس إيماننا بأنّ الله الّذى نعبده هو الرّحمن الرّحيم، هو الله المحبّة. قَدَرُنا أن «نتصاحب» ونحدّد بعضُنا البعض. قَدَرُنا أن نبنى مجتمعًا حرًّا، يعيش فيه الإنسان ليختبر وجود الله وينعم بأخيه الإنسان، ليحتفى بالاختلاف. وأيًّا كان قَدَرُنا، فلا مناصَ من أن نؤثّر فى بعضنا البعض، ونتأثّر ببعضنا البعض، أن نتشكّل ونشكّل. «الْحَدِيدُ بِالْحَدِيدِ يُحَدَّدُ، وَالإِنْسَانُ يُحَدِّدُ وَجْهَ صَاحِبِهِ.» فهل تصاحبنا؟