الثلاثاء 16 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

تركيا والانقسام الأوروبي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
تحدثنا الأسبوع الماضى عن صراع القوى الدولية على مناطق النفوذ القديمة ومحاولة كل قوة إعادة فرض سيطرتها وزيادة مساحة هذا النفوذ ليمتد إلى مناطق أخرى، وهو الأمر الذى لا يتم بمعزل عن بعض القوى الإقليمية مثل إيران وتركيا.
ففى الوقت الذى لعبت فيه ميليشيات تنظيم داعش الإرهابى دورًا رئيسيًا لتحقيق طموحات أردوغان فى منطقة الشرق الأوسط، وعلى رأسها حلم الخلافة المزعومة، عبر استخدامه كذراع لإثارة الفوضى بين دولها، فى مرحلة ما بعد «الربيع العربى»، يبدو أنه حان الوقت أمام أنقرة لاستخدام أسراه كورقة للمناورة فى مواجهة الغرب، عبر ابتزاز شركائه فى حلف الناتو لإجبارهم على تحقيق أهدافه فى المرحلة المقبلة، خاصة مع الحديث التركى المتواتر عن إعادة أسرى التنظيم من مواطنى الولايات المتحدة وأوروبا إلى بلدانهم، فى خطوة من شأنها إثارة المخاوف الأوروبية بدرجة كبيرة.
ولعل الابتزاز التركى للحلفاء يحمل أهدافًا انتقامية، بعد النجاحات التى حققتها الولايات المتحدة ودول التحالف الدولى، مؤخرًا فى دحر داعش فى منطقة شمال سوريا، بمساعدة الأكراد، والذين يضعهم أردوغان فى مرتبة الأعداء، بالإضافة إلى مقتل زعيم التنظيم، أبوبكر البغدادى فى عملية أمريكية، فى خطوة تمثل ضربة قاصمة للتنظيم المتطرف، بالإضافة إلى حالة الامتعاض الغربى المتزايد جراء سياسات تركيا فى السنوات الأخيرة، خاصة مع التلويح المتواتر بتصدير اللاجئين لدول أوروبا، وهو ما يمثل أزمة كبيرة للقادة، فى ظل الغضب المتزايد فى الداخل جراء زيادة أعداد المهاجرين، وما ينجم عن ذلك من تهديدات أمنية واقتصادية لمواطنى تلك الدول.
المأزق التركى تفاقم بصورة كبيرة، مع فشل العدوان الذى شنته أنقرة على شمال سوريا، والذى كان بمثابة محاولة لاستعادة الذراع الداعشية، بحيث يصبح لأنقرة موطئ قدم فى سوريا، يمكنها من خلاله رسم مستقبل سوريا، فى المرحلة المقبلة، وهو الباب الذى نجحت واشنطن وموسكو فى إغلاقه تمامًا أمام الرئيس التركى، عبر إجباره على وقف إطلاق النار أولا من قبل الرئيس الأمريكى دونالد ترامب الذى لوح بعقوبات أمريكية محتملة، بينما استكمل نظيره الروسى فلاديمير بوتين عبر الاتفاق الذى عقد فى سوتشى حول اقتصار الدور العسكرى التركى على دوريات محدودة بمشاركة روسيا بالمنطقة الحدودية.
ولكن بعيدًا عن خسائر الماضى، هناك تحركات غربية واضحة تتجه نحو عزل أنقرة فى المرحلة المقبلة، ربما دفعت النظام التركى إلى استخدام أسرى داعش لابتزاز الحلفاء الغربيين، فيما يمكننا تسميته بـ«الضربة الاستباقية»، خاصة مع تواتر الحديث عن مستقبل حلف الناتو، والذى يمثل القشة الأخيرة فيما يتعلق بحلم أنقرة القديم المتعلق بـ«الهوية الأوروبية»، حيث إن بقاء تركيا فى الحلف الذى يبقى رمزًا للمعسكر الغربى هو بارقة الأمل الوحيدة لتحقيق حلم الالتحاق بأوروبا.
ويبدو أن مستقبل حلف الناتو أصبح على المحك فى المرحلة الراهنة، خاصة بعد التصريحات الأخيرة التى أدلى بها الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، مؤكدًا أن التحالف التاريخى «مات إكلينيكيًا»، وهو التصريح الذى ربما يمثل انعكاسًا صريحًا لحالة الشقاق غير المسبوق التى يشهدها المعسكر الغربى فى المرحلة الراهنة، والتى ظهرت بجلاء فى العديد من القضايا الدولية، بدءًا من الأزمة الإيرانية، مرورًا بالانسحاب الأمريكى من سوريا، وانتهاء بالعدوان التركى على منطقة الشمال السورى.
حالة الانقسام الراهن داخل أروقة حلف الناتو بدأت بما يمكننا تسميته بـ«التمرد» التركى على تقاليد المعسكر الغربى، وعبر الارتماء فى أحضان موسكو، من خلال الانضمام لمباحثات «أستانا» تارة، والإقدام على شراء منظومة الصواريخ الروسية «إس ٤٠٠» تارة أخرى، بالإضافة إلى قيام أنقرة بدعم الجماعات الإرهابية المناوئة لمصالح الولايات المتحدة وحلفائها فى منطقة الشرق الأوسط، وعلى رأسها تنظيم داعش الإرهابى، سواء فى سوريا أو العراق، وهو ما بدًا واضحًا فى العدوان الأخير على شمال سوريا لدحض الأكراد الذين لعبوا الدور الرئيسى فى الحرب على التنظيم المتطرف بدعم من الولايات المتحدة.
ولعل الموقف الأمريكى الحاسم من أنقرة، سواء فيما يتعلق بالعدوان الأخير على شمال سوريا، أو حتى قبل ذلك عندما فرضت إدارة ترامب عقوبات على نظام أردوغان إثر تعنته فى الإفراج عن قس أمريكى معتقل فى السجون التركية، يمثل انعكاسًا صريحًا لإدراك الولايات المتحدة لخطورة الدور الذى تلعبه تركيا فى الآونة الأخيرة، حتى إنها اتجهت مباشرة إلى فرض العقوبات عليها، فى خطوة غير مسبوقة تجاه حليف بالناتو، كما أنها لوحت كذلك فى مناسبات سابقة لاحتمالات طردها من الحلف.
وهنا تولد انقسام آخر داخل الحلف من رحم الانقسام الأول، كانت فيه أنقرة العامل المشترك، ففى الوقت الذى ترى فيه بعض الدول الأعضاء أن تركيا أصبحت عضوًا يستحق البتر، حفاظًا على التحالف التاريخى، تبقى بعض القوى التقليدية، وعلى رأسها ألمانيا، متمسكة بأنقرة، باعتبارها حليفًا تاريخيًا، وهو ما يمثل امتدادًا صريحًا لحالة عدم الاستقرار داخل الحلف.
الانقسامات التى خلقتها تركيا لم تقتصر على مستوى المواقف السياسية، أو الخلاف بين أعضاء الناتو تجاه أنقرة، وإنما امتدت إلى داخل الدول الأعضاء، ففى الوقت الذى تمسكت فيه الحكومة الألمانية، برئاسة المستشارة أنجيلا ميركل، ببقاء العضو التركى المارق، يرى أغلبية الألمان ضرورة بتره من الحلف، خاصة بعد العدوان على شمال سوريا، بحسب استطلاع أجرته مؤسسة «يوجوف»، حيث أيد ٥٨٪ من المشاركين طرد أنقرة من عضوية التحالف، مقابل ١٨٪ فقط قبلوا باستمرارها.
وقد أصبح واضحًا أن خطوة طرد أنقرة من الناتو ستكتب كلمة النهاية لطموحات أردوغان، بعدما خسر رهانه فى الشرق الأوسط، على ما يسمى بـ«ثورات الربيع العربى»، خاصة وأن وجوده بالتحالف الغربى كان بمثابة ورقته الوحيدة لتحقيق حلم الانضمام للاتحاد الأوروبى منذ بداية حقبته، وهو الأمر الذى لم يتحقق، فى ظل إدراك التكتل الأوروبى لخطورة الدور الذى تلعبه أنقرة، ليس فقط على المستوى الدولى، ولكن أيضًا للمبادئ التى أرساها الاتحاد منذ تأسيسه، والتى قامت فى الأساس على الحرية والديمقراطية واحترام حقوق المعارضة السياسية، بالإضافة إلى سياساتها المشبوهة الداعمة للإرهاب.
وهنا يدرك أردوغان أن مستقبل تركيا فى الناتو على المحك، وبالتالى فهو يسعى لإنقاذ ما تبقى له من نفوذ، عبر الاستمرار فى أحضان التحالف الغربى، عبر استخدام ورقة داعش من جديد، ولكن هذه المرة لابتزاز الغرب، بعدما فشل فى تحقيق الهيمنة المنشودة فى الشرق.. فهل يتمكن المعسكر الغربى من صفعه مجددًا؟