الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

«الصيد».. من رواية «السقوط من ثقب غيمة» لمحمود عبدالله تهامي

رواية السقوط من ثقب
رواية "السقوط من ثقب غيمة"
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ومَنْ القاتل ومَنْ المقتول يا صديق؟ نحن لا ندرك حقيقة الأمور، نحن أشبه بإنسان يقطع شارعًا معتمًا وحده فيسقط في بالوعة واطئة، تتورط في ملايين القضايا بمجرد وصولك للحياة، ومَنْ يدفع عنك المصائب إن تربصتْ بك الشرور؟
ألم يقل لى في السابق الجندى يطمئنى أثناء قضاء مدة الخدمة الوطنية: لا تقلق المنطقة التى سنرتكز فيها آمنة لا شيء يخيف مطلقا.
أن أنتبه للزميل الذى يدفعنى لتقاسم الكلام، أن أرد، أن أقلب النقاش، لم أرفع رأسى من بين يدي، كل شيء يكلفنى الخروج من حالة الامتزاج النفسى التى أتحصن خلفها لا أهتم له، ما كان يقلقنى أمان الكمائن التى نتناوب فيها الخدمة، الانتقال من مكان إلى مكان يلزمه إعداد داخلى كى أستعد لقبول التغيرات، مع مرور الوقت تنتظم الأشياء، وتعود الحياة لصورتها الطبيعية.
شعرت بطول المدة، كان القائد يتفقدنا ليلًا في أوقات غير منتظمة، كنا نغفو جميعًا، ومجند النوبة ينام أيضًا تاركًا الحراسة، كان الجو شتائيا، لا أعرف كيف استطاع النوم وسط هذه البرودة الصحراوية دون غطاء أو تدفئة، صحونا على صوت يعنف المجند، يوبخه بانفعال شديد، نحن في منطقة حدودية متطرفة، وقريبة من شاطئ البحر، لو اقتحم المكان أحدهم يقتلنا جميعا قبل أن نرفع سلاحا للدفاع عن أنفسنا.
حذرنا القائد مثل حكيم قديم قائلًا: الغفلة أم الرذائل والتهاون في أداء الواجب يعرض حياتنا للخطر.
عاقب القائد الجندى ساعتها برفع يديه فوق رأسه حاملًا سلاحه، والمشى بخطوات بطيئة تجاه البحر، لا يتوقف إلا مع الأمر بالوقوف، استمر في المشي، غاب جسده وسط مياه البحر، لم نعد نسمع إلا شهقاته المستغيثة، قلنا للقائد: يبدو أنه غرق يا فندم.
قال: ليس بعد، أرى رأسه من موقعي.
خاض الجندى في مياه البحر، بعد منتصف الليل، ابتل كل الثوب، وعاد ليتابع خدمته في نشاط استغربناه.
في الوقت الذى أمسكُ فيه السلاح، وأباشر خدمتي، تدب في أوصالى الحرارة، لا أتكاسل، الأغانى التى يرددونها لها مفعول قوى مثل السحر.
تنفرد الطبيعة من حولى بذاتى التى تبدو ضئيلة، جهزت نفسى لمواجهتها في اللحظة التى تقرر فيها فتح ألاعيبها ناحيتي، يتراكم سواد الليل فوق بعضه، تختفى الجبال البعيدة، جهاز الرؤية الليلى كان يكشفها مثل الصبح، تختفى في عمق الليل، النجوم التى تظهر بالقرب من الساحل كثيرة بشكل ملحوظ، وأستغرب عجزها عن إزالة السواد المرعب، وقتها أدرك أن الطبيعة قررت أن تحاصرنى أولا، تزلزل قوتي، تستنزفني، كانت الشهب تجرى في صفحة السماء كما الكرات، يحدث بريقًا خاطفًا، ضوءًا مباغتًا مثل جذوة نار تقترب منك، ذات مرة استيقظنا هلعين عند سماع صوت شد الأجزاء بقوة أعقبها إطلاق نار كثيف، في لمح البصر أخذنا مواقعنا خلف الستائر، وجهنا الأسلحة كما تعلمنا، صنعنا حلقة نار حول وجودنا حتى نتمكن من المواجهة على كل الجهات، وقف صاحبنا قائلًا: لا تقلقوا عودوا إلى نومكم لقد التبس العدو.
- كيف؟
- لم أنتبه لحركة الفضاء وباغتتنى كرة نارية أضاءت المكان من حولى فزعت وأطلقت ناحيتها في السماء عدة طلقات، ظننتها صاروخًا.
- وهل تقاوم الصاروخ بالطلقات؟!
عدنا مندهشين، تساءل البعض عن تلك الظاهرة، حدثنا مجند قديم عن تاريخ المكان، شهد في الماضى حروبًا، إذا حفر أحدكم لمسافات قريبة سوف يكتشف بقايا دانة المدفع، وعظام جثث الأعداء التى لم تتحلل بعد، مازالت تائهة في الرمال، ومن الطبيعى أن تسكن الأرواح هذه المنطقة الخالية وأيضًا الشياطين الأشرار.
قضيت ليلة صعبة كانت مليئة بالعجائب، تبقى قائمة في ذهني، بعدما غفى الكل واستلمت موقع الخدمة، أقف حينا، أجلس أستريح، أمشى وأحك يدى ببعضها لتوليد الحرارة، يشدنى البحر وأتذكر الأصدقاء الذين قالوا: حظك جيد، أنت بالقرب من البحر يدخل عليك الصيف ولا تحتاج إلى فسحة، أنت والبحر عش الحياة. 
هم لا يعرفون حقيقة البحر ليلًا.. ياااه.. إنه مخيف جدًا لدرجة كبيرة، يبدو كما تصوره الأساطير، واسع ومتوحش، مستعد لدهسك وابتلاعك دون تفكير، قال أحدهم: هذا خوفك الداخلى يسيطر عليك.
البحر بالفعل يبعث أصوات مرعبة، أول مرة أدرك هذه المعلومة، سمعت الأصوات تتنادي، تتقاتل، تتحارب، أف لهذا المدى الواسع الغامر بالأسرار، قبضت على سلاحى وأعددت نفسى لمواجهة كل الغرائب، التى تهب حتمًا من تحت الأعماق، تفرغ البحر من محتواه، قبل أن تثب إليك فجأة فتحطمك.
أصابتنى رعدة قوية، هزت كل أطرافى، شحنت مثانتى بالبول، سحبنى من كل الأوهام البرمائية صوت قطة تموء فوق البناية، تقف خلفى فوق الحائط تبكى بقوة، كانت تعوي، طفل ينتحب، كنت خائفًا، وددت مناداة زملائي، أو أقطع الخيالات، وأحطم رأس القطة الشريرة، صدرتْ حركة شد الأجزاء، أصوب الفوهة ناحية الرأس، يخرج أحدهم، ندانى برفق قائلًا: لا تفعل.. هذه روح معذبة فلا تؤذيها.. دعها تقضى غرضها وتمر في أمان.. 
طمئنى زميلي، حدثنى عن تلك الأرواح التى تتخفى في شكل قطة، ولما عاد بحثت عنها فلم أجدها.
المكان ينز غرابة، قطط المكان وكلابه مفزعة بتصرفاتها، هل رأيت كلابا كثيرة تعيش في مكان شرس، ولا تكتسب طبيعته؟ لا تعوي، لا تهاجم، تستسلم لأى أذى، تتلقاه ببساطة، تهجر، أو تموت بسلام.. 
متى يطلع النهار وأنتهى من تلك الليلة المشئومة؟ فكرت في الليالى المقبلة وكيفية التعايش مع كل هذا الجنون، يعتمل شك داخلى في قدرة الخوارق المتعددة على التجمع كلها في وقت واحد لإرهاق النفوس الضعيفة، أنا لست ضعيفا بالمناسبة، أحمل سلاحا، وجسدى يفرق لأن الجو بارد.. ولكن.. ما سر تمسك الأرواح البريئة ببقعة الأرض التى غادرت الحياة فيها؟ أهى تستمر في بعث الرسائل الملغزة التى يستفيد منها النقي، تختفى المضامين.. 
تبزغ الشمس أخيرًا، ألمح شخصًا يقترب، يرتدى بنطلون قماش وقميصًا باهتًا، يقترب، يخفق قلبي، أخذت مكانى خلف الساتر حتى اقترب لمسافة معينة، منذ متى ويوجد أحد هنا؟ بادرته برفع السلاح، صرخت فيه: مكانك!
يتوقف فزعًا
ارفع يديك عاليًا!
يرفع يديه عاليًا.
انزل على ركبتيك!
ينزل متلهفًا.
انبطح!
ينبطح. 
ما عرفت صوتى وأنا أصدر الأوامر، والهدف ينفذها بطواعية عجيبة، صوت قوى لا يحتمل اللعب أو الشك، اقتربت محاذرًا، رأيت جسدًا ممتلئا يرتعد، يتهته بكلمات غير مفهومة، كأنه يتعرض لمثل هذا الموقف لأول مرة، لم تظهر عليه علامات من يهدد أمن المكان، كان خائفًا، أشفقت عليه، حاولت الانتهاء من الإجراءات بسرعة، هل هو تائه وسط رحلة جبلية؟ ظل السلاح مصوبًا في مؤخرة رأسه، وقدمى تمارس تفتيشًا أمنيًا خاصًا، كمن يدهس فأرًا.. سكن جسده فجأة، سألته: من أنت؟
كان يردد قبل سكونه الأنا كثيرًا: أنا... أنا... أنا.... أنئنة مستمرة وغير مكتملة.. 
دفعته بقدمى ليعتدل على ظهره، وجدته ثقيلًا جدًا، وضعت السلاح، أدرته بيدي، وجدته جثة هامدة.
فصل من رواية «السقوط من ثقب غيمة» لـ«محمود عبدالله تهامى»