الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

مصطفى بيومي يكتب: يوسف السباعي "شحاتة"

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

على مر الزمان والأجيال، سطر التاريخ بحروفٍ من نور أسماء روائيين ومبدعين، أضاءوا حياتنا وعمرنا وقيمنا.. الكاتب المبدع مصطفى بيومى بدأ مشروعًا طموحًا للكتابة عن هؤلاء العظماء، وأنجز منه ثلاثين فصلًا.. يتضمن كل فصل تحليلًا لشخصية روائية واحدة من إبداع كتيبة الروائيين المصريين، من طه حسين ومحمد حسين هيكل وعبدالقادر المازنى إلى جيل الشباب الموهوب المتوهج، مرورا بعشرات الكتاب الجديرين بالاهتمام والدراسة.

عبر هذه القراءات، يقترب مصطفى بيومى من الحياة المصرية في مناحيها المختلفة، انطلاقًا من تساؤله المشروع: «وهل مثل الرواية في قدرتها على تقديم الشهادة الشاملة التى يمكن من خلالها التطلع إلى المستقبل الأفضل الذى ننشده؟».

«البوابة» تحتفى بكاتبنا الكبير وتنشر صباح يومى الثلاثاء والسبت من كل أسبوع، فصلا من الدراسة القيمة، لتكون شاهدًا على عصور زاخرة في عمق الأدب المصرى وقوته الناعمة.

 

من رواية (السقا مات)

شحاتة أفندي، في «السقا مات»، شخصية استثنائية فريدة في تاريخ الرواية المصرية، ذلك أنه يحترف مهنة شاذة منقرضة تثير الدهشة ولا تبدو قابلة للاستيعاب والفهم عند الغالبية العظمى من المعاصرين؛ السير أمام الجنازات لإضفاء الهيبة والتأكيد على سمو المكانة الاجتماعية للموتى الذين يتم تشييعهم إلى المقر الأخير، إنه «موصلاتي» كما يقول جادا ساخرا في حواره مع المعلم شوشة السقا:

«- بوصل اللى انتهى.. لنهايته.. موصلاتى ذهاب بس مش ذهاب وإياب.. اللى أروح معاه ما يرجعش أبدا.. أسيبه وتنى راجع».

يلتبس الفهم على شوشة، فيضيف شحاتة أفندى شارحا:

- حاجة كده زى صبى حانوتى أو مطيباتى جنازات.

- مطيباتى جنازات؟

- أيوه.. أمشى قدام الجنازات من باب الافتخار والقيمة والنفخة.. نفخة الأموات.. أو آخر نفخة بيتمتع بها البنى آدم المغرور.

- أنت من اللى بيمشوا قدام الميتين؟

- ما فيش كلام.. يسمونا لفندية.. واحنا مافيناش من لفندية غير البدلة».

صديقا الصدفة، شوشة وشحاتة، يقفان على طرفى نقيض من حيث السلوك والتكوين النفسى ومنظومة القيم التى تحكمهما والموقف من ثنائية الحياة والموت. شحاتة شخصية انبساطية مرحة، مقبل على الحياة بلا حسابات معقدة، يتسم بالحيوية والولع بالنساء والسخاء في الإنفاق. الاقتراب من الموت لا يجعل للخوف مكانا في قلبه، فهو يألفه ويسخر منه مسلحا بفلسفة عميقة مستمدة من التجارب والخبرات وليدة العمل الغرائبى الذى يمتهنه. وفق صياغته بالغة الدقة والوضوح:»لقد بت أحتقر الموت وأحتقر أكثر منه.. الإنسان.

الإنسان حقير يا صاحبى إلى أقصى حدود الحقارة.. والعجيب!! أنه حقير ومغرور.. وغروره يعمى عينيه عن حقارته».

الإسراف في الاقتراب من الموت يمنح شحاتة شجاعة اللامبالاة والتعالي، والعمل الذى يحترفه وسيلة لكسب الرزق، مثله في ذلك مثل الرفاق في القهوة المجاورة لدكان الحانوتي، ليس إلا مهنة كالمهن. الموت مصدر رزقهم للاستمرار في الحياة، والمرح الذى يصاحبهم صادق لا افتعال فيه أو تصنع. كيف يخافون مفردة عادية مألوفة في حياتهم اليومية؟

 

في مسمط الحاجة زمزم، المرأة العملاقة الشرسة الأشبه بالفتوات، تولد علاقة الصداقة بين شوشة وشحاتة. الزبون الجديد وجه غير مألوف في المسمط الذى يتردد عليه شوشة كثيرا، وهو كهل لطيف بشوش ذو ثياب تجمع بين زى الأفندية وملابس أولاد البلد. إقباله الشره على الطعام لا يختلف عن إصراره على مغازلة المرأة مسرفة البدانة صاحبة المسمط، وعند الوصول إلى محطة دفع الحساب تخيب مراهنته على مفعول الغزل الذى يتفنن فيه بالغناء ولغة الجسد، يعلو زئير زمزم وهى تصيح في صبيها:

«- قل له يدفع قبله.. لحسن أخرجه من الدكان ملط، ياكل جوهرة ولسان، ومش عايز يدفع الحساب.. الأقرع النزهي، والنبى أطلع حبابى عينيه.

وارتجف شحاتة أفندى فقد وجد أن المسألة أخطر بكثيرمما كان يظن.. لشد ما خُدع في المرأة.. إذ ظنها مركبا سهلا ذلولا».

سلوك كهذا يكشف عن ملمح مهم في شخصية شحاتة، فهو مندفع لا يفكر في العواقب ويتحرك من وحى اللحظة وما تمليه الشهوة. يشتد به الجوع ويؤمل خيرا في زمزم، فيأكل في نهم وهو الذى لا يملك نقودا، مراهنا على سقوط المرأة في هواه وتغاضيها بالتبعية عن مطالبته بالحساب. مأزق خطير يعرضه للإهانة والتجريس، واستسلام للمصير المجهول حتى يتدخل المعلم شوشة بلا سابق معرفة فيدفع له وينتشله من الورطة، مدفوعا بالشهامة والمروءة والإشفاق والانتصار لكرامة الإنسان.

بعد عملية الإنقاذ باهظة التكلفة، يعبر شحاتة عن شكره وامتنانه في صوت خافت:

- عدم المؤاخذة يا معلم.. أنا في غاية الممنونية والخجل.

- ما فيش لزوم.

- سأرد لك الدين في أقرب فرصة.. لقد طوقت عنقي، أو على الأصح، أفلت عنقى بجميلك الذى لن أنساه مدى الحياة».

ليس من مؤشرات تنبئ عن قدرة شحاتة على رد الدين، ومظهره يوحى بالإفلاس والفقرالمدقع، المعلم شوشة لا يعرف شيئا عن عمله ولا ينتظر عودة نقوده، لكنه الحس الإنسانى يملى عليه أن يتدخل لإنقاذه من براثن المعلمة زمزم التى لا ترحم ولا تتسامح.

الابن الطفل سيد شوشة لا يخفى إعجابه بالعم شحاتة: «لأنه كان بادى الطيبة، سليم الطوية، مرحا مهزارا طروبا.. كان من نوع لا يمكن إلا أن يُحب».

أم آمنة، جدة سيد لأمه، لا تشارك حفيدها رأيه الإيجابي، وكان ذلك قبل أن تعرفه عن قرب وتتعلق به: «فقد كانت الصورة التى ارتسمت في ذهنها عن شحاتة، مما قصه عليها شوشة باختصار عن واقعة الأمس، هى صورة محتال نصاب تسبب في خسارة شوشة أربعة قروش ذهبت سدى بلا أمل في استردادها».

أهو رجل طيب جدير بالحب والإعجاب، أم محتال يستحق النفور والازدراء؟. بزيارته لبيت شوشة تتضح الأبعاد الكاملة لشخصيته الحقيقية، ويتحول سريعا إلى واحد من أفراد الأسرة الشعبية التى تشبه آلاف الأسر المصرية الفقيرة في الربع الأول من القرن العشرين.

 

يعود شحاتة ليسدد دينه ويبرهن على طيب معدنه، وفى الكلمات القلائل التى يقولها لشوشة ما يكشف عن المزيد من ملامح شخصيته المتفردة التى لا يمكن اكتشاف سماتها الكاملة من واقعة المسمط: «كتر خيرك.. أنا عمرى ما فيش دين تعبنى أد دينك.. أنا مش هأنسى جميلك أبدا.. انت عملت جميل في رجل ما تعرفوش.. ولا تعرف إذا كان هايرده والا لأ.. انت عملت معروف.. لله.. ودا المعروف الحقيقي».

لتسديد الدين الذى يؤرقه، يبيع شحاتة القليل من الأثاث البالى في حجرته، قبل أن يهجرها، ولا يبقى له إلا البدلة «عدة الشغل»، بل إنه يتنازل أيضا عن الناى الذى يتسلى به وينفس عن همومه، فهو يهديه إلى سيد مع وعد بتعليمه العزف. ما الاحتياج إلى الناى وقد وجد في بنى الإنسان من يستحقون إعجابه وثقته، ويتسلحون بالشهامة الأصيلة التى تحرره من ضغوط الوحدة والخواء؟

على الرغم من قسوة وكآبة الحياة التى يعيشها شحاتة، فإنه لا يستسلم للمتاعب والمنغصات، ويأبى إلا أن يستمتع بالمتاح من المسرات. المرح سلاحه الذى يقاوم به، وعندما يصاحب شوشة إلى القهوة ويلعبان النرد، يكشف أسلوب لعبهما عن الفارق الشاسع بين الصديقين الجديدين: «فشوشة لعيب صامت وشحاتة لعيب لا يكف لسانه عن الحركة بين شدقيه».

الاختلاف بينهما لا يفسد العلاقة بقدر ما يدعمها، فهما متكاملان، وليس مستغربا أن يصر شوشة على دعوة الوافد الجديد في حياته إلى مشاركته السكنى. لم يكن يعرف طبيعة عمله، ومن البدهى أن تتغير الرؤية بعد إدراكه لطبيعة المهنة الغرائبية الصادمة: «لقد كان يرحب به ويطرب لصحبته.. قبل أن يشم منه رائحة الموت والجنازات والقبور.. أما الآن فهو يحس منه رهبة شديدة».

لا يغيب التحول غير المعلن عن شحاتة، وإعلانه عن نية الرحيل لا يجد قبولا من شوشة، فهو يجد فيه صديقا لايمكن الاستغناء عنه على الرغم من الاختلاف والتباين، وربما بفعل هذا الاختلاف الذى تتجسد من خلاله ثنائية الحياة والموت وضرورة التعايش بينهما.

باستقراره في بيت شوشة، تتبلور ملامح جديدة في شخصية شحاتة. إنه كريم ينفق ببذخ عندما تتوافر النقود، وبشوش ضحوك طيب القلب سريع التآلف مع الآخرين، عفوى بسيط لا يحمل للدنيا هما ولا يستسلم للأحزان. يجيد القراءة والكتابة، وفى شرحه لآيات القرآن التى يحفظها سيد ما ينم عن وعى وإدراك، لكن الملمح الأهم هو ولعه المتطرف بالمرأة كما يتجسد في حكايته مع العاهرة عزيزة نوفل.

 

مغازلة شحاتة للحاجة زمزم صاحبة المسمط، وهى أبعد النساء عن جنس النساء، تنهض دليلا مبكرا على ولعه المتطرف بالمرأة، وعندما يرى عزيزة نوفل من مجلسه في القهوة، لا يتوانى في الإعلان جهير الصوت عن إعجابه بجمالها الأخاذ. يعتذر لشوشة عن سلوكه المنفلت، وفى اعتذاره ما يكشف عن المكانة التى تحتلها المرأة في حياته:»ما أعرفش بيجرالى إيه لما بشوف صنف الحريم.. طول عمرى كده.. أصلى دنى أحب اللحمة.. داء يا معلم ما يسبنيش أبدا.. وكل ما قول بكره الواحد يكبر ويعقل.. ما بعقلش أبدا.. بالعكس الحكاية بتزيد وبلاقى نفسى بحبهم أكتر.. خفة عقل.. والا خفة قلب ما تعرفش.. لو تقعدنى كده طول اليوم أتفرج على نسوان ما أزهقش أبدا.. بسببولى انبساط وفرفشة زى الخمرة والحشيش».

عزيزة نوفل عاهرة محترفة باهظة الثمن، ووفقا للتسعيرة التى يحددها القواد شرف الدين الدباح، فإن الليلة معها تتكلف خمسين قرشا، وهو مبلغ لا يطيقه إلا الأثرياء، شحاتة ذو دراية واسعة بخبايا عالم الدعارة والعاهرات في القاهرة، ما يدفع القواد عند الاستماع إليه إلى القول:»طيب وإيه اللى يخليك تقعد هنا؟.. ما تقوم تشتغل معايا»!

يسيطر اشتهاء عزيزة على مشاعر شحاتة المفتون بأنوثتها الطاغية، ويندفع كالعهد به فيدفع كل ما معه من نقود، عشرة قروش، مقدم ثمن الليلة الموعودة معها، ويبدأ التهيؤ والاستعداد على الرغم من خلو جيبه. يوصى خشت الجزار بـ«توضيبة من إياها» مع تأجيل الدفع، ويستدين من الحانوتى سرور ريـالا يضيفه إلى الريـال الذى يحصل عليه أجرا للجنازة التى يشارك فيها، وتكتمل الميزانية المطلوبة للمغامرة بنصف ريـال يقترضه من الشيخ سيد زميله في العمل، ومن دكان عبيد العطار ينهى التجهيزات: «واتجه إلى البيت محملا بكل أدوات القتال التى سيخوض بها معركة الليل».

قيلولة هى الأخيرة في حياة شحاتة أفندي، فإذ يطول نومه ويدخل شوشة إلى حجرته للاطمئنان عليه، يكتشف السقا الموعود بالأحزان موت صديقه:»لقد مات مشيع الجنازات، والساخر من الأموات».

موت مفاجئ بلا مقدمات، غير مسبوق بمرض أو شكوى، ويبقى شحاتة بنهايته هذه فاعلا مؤثرا بعد موته كما كان في حياته. الانقلاب الذى يصيب المعلم شوشة مردود إلى تفاعله مع الصديق الضد حيا وميتا، فهو لا يستوعب نهايته ويبدو راغبا في محاكاته والسير على خطاه في توصيل الموتى إلى محطتهم الأخيرة.

واحد من زملاء شحاتة يقدم توصيفا دقيقا لشخصيته البعيدة عن التعقيد، الخالية من الحسابات، البريئة من داء التطفل على الآخرين والتدخل في شئونهم:»كان رجل أمير زى السكرة عمره ما زعل حد ولا عاب في حد.. طول النهار قاعد يغنى ويضحك».

الشيخ سيد «مخزن المخدرات»، هو الأكثر وعيا بفلسفة صديقه شحاتة ومثالية سلوكه الإنسانى العابر للكراهية والحقد والرغبة الشريرة في إلحاق الأذى بالآخرين. المثالية هنا لا تعنى النقاء المطلق والنجاة من كل عيب ورذيلة، فلا وجود لهذا النمط من البشر، لكنها تشير إلى التصالح مع النفس والابتعاد عن دس الأنف في حيوات الآخرين:

- ارحمه يارب.. حقيقى كان بتاع نسوان، وفلاتي، وخباص وهلاس.. لكن برضك أحسن من ولاد الكلب السفلة دول كلهم.. طيب وأمير وعمره ما أذى حد.. ولا عاب في حد.. ولا تسبب في ضرر حد..

وأمن شوشة على قول الشيخ سيد بقوله:

- معاك حق.. كان قلبه أبيض زى حتة البفتة..

ولم يرد الشيخ سيد على شوشة بل استمر موجها قوله إلى الله:

- وانت عايز إيه من العبد غيرانه ما يضرش أخوه، إيه يضايقك من إنه يشبرق نفسه ويشوف كيفه؟.. وإيه يفيدك من حرمانه من نعمك؟.. ارحمه يا رب وارحمنا معاه.. احنا عبيدك الغلابة».

كل سلبيات شحاتة وأخطائه وخطاياه ترتد إليه وحده، ولا تلحق الأذى بالآخرين. البطولة الجديرة بالحب والتقدير تتمثل في أسلوب التعامل مع البشر المحيطين به، وما الذى يريده الله من الإنسان إلا أن يكون طيبا خيرّا لا يؤذى رفاقه من أبناء القبيلة الإنسانية؟

البطولة في «السقا مات» موزعة بين شوشة وشحاتة، لكن الأخير يفرض حضوره الطاغى حيا وميتا، ويملأ الرواية بالبهجة والحيوية. فيلسوف شعبى بسيط عميق، لا يعز وصول حكمته نظريا وعمليا، وما الموت المباغت إلا التتويج الأمثل لحياة تليق بها نهاية كهذه، كأنه يبوح بحكمته الأخيرة البليغة قبل الرحيل.

تصالح الأحياء مع الموت هدف نبيل يسعى إليه الإنسان في كل زمان ومكان، واعيا بمسعاه أو مساقا بفطرته، وليس مثل شحاتة في تجسيد المصالحة التى تنفى الخوف من الموت وتنتصر للحياة. عندئذ تستقيم المعادلة وتتراجع الأحزان والمنغصات، ويتجلى معنى الوجود الإنسانى الذى يغيب عن الأغلبية الساحقة من البشر.