الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

العقاد فى بيته

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
هذا لقاء مع عباس محمود العقاد من خلال كتابه «فى بيتى»، المنشور بدار المعارف، مصر، فى سلسلة «اقرأ» عدة مرات. وقد افتتحه «العقاد» معبرا عن حبه للنور قائلًا:
«إننى أحب مدينة الشمس لأننى أحب النور». وهو يعلن عن مكامن شخصيته محبا للنور رمزا للحياة وللعلم. والشاعرية سمة أسلوبية للعقاد، وهو يصف النور، وأثره فى الروح والقلب والوجدان. كما أنَّ من سمات أسلوب العقاد اتجاهه الفلسفى التأملى، يتجلى فى قوله: «إن الأرواح تخف فى النور كما تخف الأجساد فى الماء».
ويقول شعرًا:
النور سر الحياة
النور سر النجاة
ويمضى العقاد فى هذا الكتاب طارحًا آراءه وأفكاره ورؤاه الثاقبة فى مناحى الحياة والفن والثقافة بشكل حوارى نابض بالتفاعل بينه وبين القارئ، إذ عادة ما تبدأ فقرات الكتاب بقال صاحبى وقلت. والأرض، إذ يفيض نورها، سعادة للروح، يقول العقاد:
إذا فاض بها النور هزت قلوبنا سعادة روح ليس يعرفها الجسم
والنور - عند العقاد من عالم الروحانيات، وهو سر الأسرار.
النور مدى الكون، وهو النور الإلهى: «قل إن الكون نور، قل إن الله نور السموات والأرض».
وتتوالى الصور الرائعة للنور شعرا ونثرا معبرة عن روعته فى الأنظار، وبهجته فى الأرواح يراه «العقاد» عالما سرمديا.
والكتاب مع تنوع موضوعاته لا ينقسم إلى فصول، وإنما يمضى دفقات من أوله إلى آخره، ويجسد العقاد الكتب حاضرة الأرواح جياشة الحركة بحياة مؤلفيها.
وكتابات العقاد - ممثلة فى هذا الكتاب- تناصات باذخة المعرفة من الشرق والغرب قديما وحديثا. ويرجع هذا إلى الطبيعة الموسوعية لمكتبة العقاد «شعر وتاريخ وفن ودين وسير وطبائع حشرات تصاحبها طبائع عظماء..» وغيرها، وعلى هذا التنوع والغنى نمضى مع العقاد فى مكتبته.
ويتصور العقاد لقاء الشعر بالدين حين يعبر الشاعر عن نفسه، ويريك جمال الخالق فى خلقه.
ويفضل العقاد قراءة ديوان شعر أو كتاب على قراءة قصة. ويقر بعبقرية بعض كُتَّاب القصة إقراره بالاختلاف فى هذه القضية.
لكنا لا نقر تفضيل نوع أدبى على آخر، بل نرى أن كل نوع له خصوصيته، وأثره فى المتلقى الذى يختاره، والنظرة إلى الأنواع الأدبية يحسن أن تكون نظرة تكامل لا تفاضل. ويفند العقاد آراء الداعين إلى الشيوعية، ويحمل عليها حملة فكرية تؤدى إلى بيان عوارها من وجهة نظره. وربما كان غروب الشيوعية فى العالم الآن مصداقا لما رآه العقاد من سلبياتها مع سطوتها آنذاك. وقد رأى العقاد أن الشيوعية تنظر إلى الإنسان باعتبار حاجته إلى الطعام فقط متجاهلة حقه فى حريته الفردية.
ومع أن كثيرا من القضايا التى تطرق إليها «العقاد» فى هذا الكتاب قد مضى عليها زمن طويل، فإنها لا تزال تحمل قدرا كبيرا من المصداقية والأصالة لغوص العقاد - الفيلسوف- على الكليات التى يستنبطها من الجزئيات لتنتظم فى قانون عام.
ويهتم العقاد بالبواعث النفسية فى تحليله للمذاهب وللشخصيات، وقد كان حفيا بالمنهج النفسى فى تحليله للعباقرة فى كتبه عنهم، ولشخصية أبى نواس، وابن الرومى، وغيرهم. و«التعاون»- فى نظر العقاد- حل للمشكلات الاجتماعية والسياسية وغيرها لتحقيق الطبيعة الإنسانية فى حياة الأفراد والجماعات. والعوالم المختلفة للكتب تفسيرا للكون، وترتيبا للحياة.
وفلسفة الحياة تؤدى إلى أنَّ الوجود الكامل الأمثل هو الله.
ومن فلسفة العقاد قوله الحكيم: «لا عذاب للنفس أنكأ لها من شعورها بالنقص، ولا نعيم لها أنعم من شعورها بالرضوان».
ويرى العقاد أن الفنون هى تعبير الأمم عن الحياة. وكتاب «فى بيتى» للعقاد هو عرض لمكتبته، وما تحويها من علوم وفنون وكأنه جعل هذه المكتبة بيته.
وهو يستقطر خلاصة هذه الكتب، ويستلهم منها ما يتوافق مع رؤاه وفلسفته، ويدافع عن آرائه بالمنطق والحجة الدامغة، ويناقش خصوم رأيه فى وضوح وحسم، مستندا إلى ثقافة غزيرة ورأى سديد وقدرة فائقة على الإقناع.
والعقاد فى بيته أو بالأحرى فى مكتبته لا يحاور صاحبه فى تفاصيل الكتب، بل يكتفى بعناوينها لإثارة النقاش فى جواهرها.
ويشغل ركن الشعر والشعراء ربع المكتبة، كما أشار العقاد، مقررا أن الشعر ليس قولا دون عمل «وأنه لم توجد قط أمة عرفت كيف تعمل إلا عرفت كذلك كيف تقول»، وذلك ردا على صاحبه الذى رأى أننا- نحن الشرقيين- شبعنا من الاحتفاء بالشعر الذى يعد- فى نظره- فضولا من القول يفضله العمل.
ويحب العقاد من الشخصيات المشهورة صاحب الجد والكفاح ونبل السليقة وقلة الاستخفاف. ويتنوع أثر الموسيقى بتنوع الأذواق، ومنها- فى نظر العقاد- موسيقى الروح، وهى التى تخاطبنا من منبر الإلهام. أما عظماء البطولة الإنسانية فإنهم لا يوزنون بغير الصفة العليا التى تتجلى فى البطولة، وهى الإيثار، ويرى العقاد أن الليل هو عالم النفس، أما النهار فهو عالم العيون والأسماع والأبدان.
والعقاد رومانسى حين يصف الليل بقوله: «ذلك الصمت السابغ على الكون هو شيء لك أنت وحدك، رهين بما تملأه به من خيالك وفكرك، ومن ضميرك وشعورك».
أما العطف على الحيوان فدليل على النزعة الإنسانية. وينظر العقاد، الناقد الأدبى، إلى ابن الرومى الشاعر المتشائم نظرة متفردة، فيجعله وحيد شعراء العالم من مشرقه إلى مغربه، ومن قديمه إلى حديثه فى ملكة «الوعى والتصوير».
لقد صحبنا العقاد- بهذا الكتاب- إلى واحة فكره، وخلاصة تجربته عبر مكتبته، وكتبه التى ألَّفها فى بيته الذى يتمثل فى وصفه ببيت حافظ إبراهيم:
كم مر لى فيه عيش لست أذكره ومر لى فيه عيش لست أنساه