الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

مجددون في عباءة المحافظين.. «المنفلوطي» ثائرًا مستنيرًا «2»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
قلنا إن مفكرنا كان من أخلص تلاميذ الشيخ «محمد عبده» فى حمل رسالته فى ميدان التجديد والإصلاح. وقد اتخذ من إحياء الفضائل العربية الإسلامية فى أذهان الشباب وقلوبهم وسلوكهم سلاحًا للثورة على فساد العادات وانحطاط القيم التى لوّثَت الثقافة المصرية من جرّاء الجهل والتخلف وضيق الأرزاق والابتعاد عن أصل الدين والتأثر بتقاليد المُحتَل، كما نجح إلى حد كبير فى تقوّيم سلوك المتصّوفة والمُتنطعين فى الدين وبيّن مع أستاذه أن التصَوّف الحقيقى هو الذى يعبّر عن أخلاق الإسلام ويطبق مقاصده ويرتقى بأخلاق الأمة، إلى عشق اللذّات الروحية ومحبة العمل النافع للناس ونشر روح التسامح فى المجتمع، بمنأى عن الطائفية والعنف الملي والتعصب المذهبي.
وقد أدرك رفيقه «سعد زغلول (١٨٥٩م-١٩٢٧م)» أثر كتابات «المنفلوطي» فى العقل الجمعي، فاتفقا معا على صياغة وبناء برنامج الثورة المصرية، تلك التى انطلقت من أجل الحرية والكرامة والاستقلال.
فقد فطّن كلاهما إلى أن الثائر المستنير الحقيقي، هو المدفوع بفضيلة الشجاعة والحياء والعفّة وإنكار الذات وليس العنف والفوضى والانتهازيّة، وأن الحرية تطلب من مُنكريها وتُنتَزع بالجهاد من مغتصبيها. 
وقد سجّل التاريخ لهذيّن الرجلين فضل إيقاظ وبعث الروح الثورية فى عزائم الشباب.
وقد صرح «المنفلوطي» فى عديد من المحافل بانتصاره للفلسفة وحركة الاستنارة والثورات الأدبية الإصلاحية التى تعمل على تجديد الفكر وتقويم الجانح فى سلوك الفرد والمجتمع وتحديث الغَث البالي من الأفكار والمعتقدات والآراء. وتحارب بالعلم والوعي كل قلاع الاستبداد، دفاعًا عن الحرية.
ولم يتحَرجّ من أن يُشيد بفلاسفة التنوير الأوروبيين وعلى رأسهم «فولتير ( ١٦٩٤م-١٧٧٨م)» ذلك على الرغم من اختلافه معه فى الكثير من آرائه العقَدّية، الأمر الذى يؤكد أن «المنفلوطي»، كان يطلب الحكمة من كل صَوّبٍ ودرب وإن امتلكها الأغَيار المخالفين. ومن أقواله فى ذلك (جئنا لنرفع شأن المدنيّة ونكرم الفلسفة إكرامًا ينفعها ويفيدها، جئنا لنكَرم المجاهدين والعاملين المخلصين، وجملة القول إنا ما اجتمعنا هنا إلا لنمجد العاطفة الشريفة السامية، عاطفة السلام العام، إنا نمجد السلام حبًا فى المدنيّة وحرصًا على رونَقها وروائَها فإن السلام فضيلة المدنيّة والحرب رزيلتها، فلا قوة إلا قوة الضمير ولا مجد إلا مجد الذكاء، ذلك فى سبيل العدل وهذا فى سبيل الحق).
وأضاف «المنفلوطي» أن عظمة «فولتير» تتمثل فى حَملته على العنف والاستبداد العقّدي وتَجبر الساسة الذى مكَنّ رجال الدين وساندهم لخرس الألسنة وسَجن العقول باسم الربّ ومقدساته وقطع الرؤوس والتمثيل بأصحاب الرأى والتنكيل بكل من يخالف السائد من المعتقدات. (تقدَم «فولتير» وحده وأثار حربًا عَوانًا على هذا العالم القوى المخيف، ولم يرَه أكبر من أن ينخَذّل ولم يرَ نفسه أصغر من أن ينتصر. أتدرى ما كان سلاحه؟ ما كان له سلاح غير تلك الأداة التي تجاري العاصفة فى هبوبها وتسبق الصاعقة فى انقضاضها. ما كان له سلاح غير القلم، فبالقلم حارب وبالقلم انتصر، «فولتير» محا الخرافات الدينية والعادات الفاسدة وأرغم أنف الكبرياء وأذل عزّ الرؤساء، عَلمّ ومَدّن وهَذّب ولقي فى سبيل ذلك من الشدائد والمحَنّ والنفي والقهر ما يكسر النفس فلم تنكسر...، إن أولئك القوم «التنويريين» علموا الناس النظر فى حقائق الأشياء والتفكر الموصل إلى إتقان الأعمال وعلموهم أن صَلاح القلب أثر من آثار صلاح العقل فأجادوا وأفادوا، أجل إن الثورة روحهم، والمظهر الساطع المتلألئ بحكمتهم ومبادئهم، فهم فى الحقيقة أبطال الثورة المقدسة التي هى خاتمة الماضى وفاتحة المستقبل).
وبذلك برهن مُفكرنا «مصطفى لطفى المنفلوطي» على أن عمامته وعباءته الأزهرية لم تحُل بينه والانتصار لحرية العقيدة والعقلانية فى الاجتهاد والبوح بالرأي، ولم يقده ميله للفلسفة وجلاله لفلاسفة التنوير الأوروبى إلى التخلي عن أصول دينه، ووسطيته العقدية المعهودة فى جل الأزهريين المجددين، شأن بعض معاصريه من التغريبيين الذين ساروا فى ركاب فلاسفة الغرب دون نقد أو تمحيص.
وللحديث بقية..