الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

عودة إلى أكاديمية دولوز

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
«قراءة دولوز، فعل استشفائى ضد الشمولية الفكرية» بهذه الجملة يختزل الفيلسوف الفرنسى آلان باديو مسيرته الصاخبة مع دولوز الذى جمعته به معارك كثيرة.
دولوز الذى كان يعلى راية فلسفة مرتحلة جغرافيا، ضد المركزيات، ضد الأقوياء، ضد الدوكسا، ضد الأكاديميات التى لا يشهد أحد ميلادها ولا يعرف أحد دهاليزها، الأكاديميات التى تقدم نفسها دائما من خلال لافتة على بوابتها، وتصدق نفسها فى حديثها حول نفسها.
هذا الترحال أو حتى التشرد، يسكن، فى أكاديمية دولوز، جناح النقد المفاهيمى للاستبداد والشمولية؛ هذان الأخيران اللذان يبدآن دوما كفلسفة تعلى رايات فحولتها قبل أن تتحول فحولتها نفسها إلى فعل خصى مسلط على جميع الأفكار المخالفة...
فى كتابه الثنائى «ألف طبق» قال دولوز بتاريخ أفقى للفلسفة، وبمفهوم جغرافى لأقاليم التفكير، لأن الهيمنة هى دوما فعل عمودي، يفتكّ شرعيته من الجذور؛ من التاريخ...ولهذا اهتم بالجذمور le rhizome؛ الكائن (النبات) الذى لا جذور له، أو الموجود الفلسفى الذى يعلن عن جذوره بكل شفافية... التاريخ الذى هو مضمن فى جغرافيته الأفقية... المنفتح والحركى والفضولي... الجذمور الدولوزى بهذا المفهوم يصبح كيانا مضادا للشمولية والأفكار المهيمنة والممارسات السياسية والثقافية غير المتسامحة فى أذهان الناس.
وربما تكون مزية دولوز هو أنه تخلص من التاريخ لفائدة الدعاية للمستقبل.
مسألة تحتاج نظرا.
تنويعات
فى محاضرة شهيرة ألقاها جيل دولوز فى إطار برنامج حلقة التفكير التابعة لمؤسسة «فيمي» (مايو ١٩٨٧) بعنوان «ما هو الفعل الإبداعي؟»... قال دولوز إن «التواصل هو نقل المعلومات ونشرها... وما المعلومات إلا مجموعة صارمة من التعليمات. عندما نبلغك بشيء تجهله، فنحن نخبرك بما يفترض أن تصدقه. بمعنى آخر: المعلومات هى تعميم لرموز سرية. لذا يقال إن تصريحات الشرطة هى بلاغات. فإن ادعينا أننا قد حصلنا على معلومات، فهذا يعنى أن ما ينبغى لك أن تصدقه قد صار بين يدينا، إذ لا يُطلب منا عموما أن نصدق، بل يُطلب منا التصرف كما لو كنا نعتقد ذلك...وهذا يعني: أن المعلومات هى بالضبط نظام التحكم».
يثير هذا الكلام أسئلة عميقة حول حدود الحقيقة. جول نظام سير المعارف والمعلومات فى المجتمع... ومن هنا يلج دولوز فكرة فلسفية نكررها ولكننا لا نملك لها الإطار النظرى الذى كان عليه أن ينتظر طويلا قبل أن يأتى به دولوز؛ أقصد فكرة أن الفن هو أكبر أنماط المقاومة... فالفن ليس وسيلة تواصل، ولا يعطى أية تعليمة واضحة.
ما علاقة العمل الفنى بالتواصل؟...يسأل دولوز. ثم يجيب: «لا شيء. العمل الفنى ليس أداة اتصال. ولا علاقة له بالتواصل لابتعاده عن احتواء أى معلومات. من ناحية أخرى، هناك تقارب أساسى بين العمل الفنى وعمل المقاومة»... ثم يطرح السؤال التالي: ما هذه العلاقة الغامضة بين العمل الفنى وأعمال المقاومة؟ خصوصا فى إطار كون المقاومين فى المخيال الشعبى أناسا ليس لديهم الوقت أو الثقافة اللازمة لأجل الالتفات صوب الفن..»
يذكر دولوز فى محاضرته بمقولة شهيرة جدا للكاتب أندرى مالرو الذى طور مفهوما فلسفيا جيدا. فهو الذى قال عن الفن: «إنه الشيء الوحيد الذى يقاوم الموت.».
إن تأمل الأعمال الفنية ينتهى بأن يحيل على شيئين أكيدين: انتصار فكرة ما؛ فكرة الفنان، فكرة ليست آتية من حوض السلطة، لأن الفنان عدو السلطة. الفنان محاورٌ دائم لإنسان الغد. لذا فهو منقطع عن حاضر تهيم به السلطة. 
الفن هو كل ما يقاوم. سواء أكانت المقاومة بأعمال فنية، أو اتخذت شكل صراع الإنسان ضد الفناء والطغيان.
يطرح دولوز السؤال المنطقي: وما العلاقة بين نضال الإنسان وعمل الفن؟
الظاهر أن العمل الفنى يلعب دورا شبيها بدور التواصل السلطوي. الفن أيضا يوجه تعليمات. ولكن: لمن يتوجه العمل الفنى بمعلوماته (إن كانت معلومات) وبتعاليمه؟
الإجابة يأتى بهاد ولوز من عند الشاعر والفنان الكبير يول كلى P. Klee والذى كان يكرر ملاحظة ذكية حول الغياب المستمر للجمهور. الأعمال الفنية موجودة وجمهورها غائب. 
أين الخلل يا ترى؟
يقول دولوز من أعلى أسوار أكاديميته: الأعمال الفنية العظيمة تخاطب إنسانا مقبلا. إنسانا كامنا فى المستقبل. الأعمال الفنية فى نهاية الأمر تهندس لإنسان المستقبل. وبقدر ما يأتينا الخلل حسب دولوز من الماضى ومن التاريخ – كما رأينا أعلاه- بقدر ما تظهر بوادر الحل فى المستقبل.
يقف دولوز فى نص آخر على انتقال التعبير الفنى إلى الفعل الفلسفي. هو يلاحظ أنك حين تتفلسف فإن الفرنسيين يقولون متهكمين: أنت تمارس السينما الخاصة بك...
هل يمكن للإنسان اليوم أن يتخلى عن فن مثل السينما؟ أو فن الفيديو مثلا؟
والسؤال الآخر: فلسفة يعلم الجميع أنها مستعدة للتفكير فى أى شيء. لماذا يا ترى لا تفكر فى السينما؟ 
إن التعريف الشهير للفلسفة الذى اجترحه دولوز مع رفيقه فى الكتابة غواطارى والذى يجعلها فن ابتكار المفاهيم هو تعريف يجعل كل موضوع عرضة للتفكير الفلسفي. فالواقع هو أن الفلسفة قد تعودت عادة سيئة جدا على مر القرون وهى ألا يكون فلسفيا إلى الموضوع الذى يُدرس فى الأكاديميات الفلسفية. وهى عادة وقف ضدها دولوز فاتحا الباب أمام كل مظاهر الحياة وكل قطاعات التفكير لكى تتحول إلى موضوعات فلسفية.
ويذهب دولوز إلى أبعد من ذلك فيقول إنه لا أحد يحتاج إلى الفلسفة للتفكير. التفكير ملكة بشرية، والفلسفة هى طريقة معينة للتفكير تدعى التعمق والمنهجية وابتكار نماذج على درجة عالية من التعميم والشمول. ويعود فى السياق نفسه صوب رفيقة الجزء الأخير من دربه الفلسفي: السينما، ليقول: «إننا نلاحظ أن الأشخاص الوحيدين الذين يمكنهم التفكير فى السينما هم صانعو الأفلام أو منتقدو الأفلام أو عشاق السينما. لا يحتاجون مطلقًا إلى الفلسفة للتفكير فى السينما. فكرة أن علماء الرياضيات سيحتاجون إلى الفلسفة للتفكير فى الرياضيات هى فكرة كوميدية». وإذا كانت الفلسفة يجب أن تفكر فى شيء ما، وهذا فى حد ذاته ليس سببا مقنعا لوجودها، وهذا أيضا مشروط بشرط تسليمنا أن الفلسفة موجودة أصلا، فهى إن كانت كذلك فإن لديها محتواها الخاص. وإذا سألنا أنفسنا: ما محتوى الفلسفة؟ فستكون الإجابة بسيطة جدا. الفلسفة هى تخصص مبدع وخلاق مثل أى مجال آخر. الفلسفة هى تخصص يتكون من إنشاء أو اختراع المفاهيم. والمفاهيم غير موجودة داخل الفلسفة ولا داخل العالم، المفاهيم مسارات معينة لوجودنا وليست موجودة تحت نوع من السماء حيث ينتظر العالمُ شخصا يسمى الفيلسوف لفهمها. علينا أن نبتكر المفاهيم. والقانون الوحيد المتحكم فيها هو الشعور بضرورة ابتكارها. 
المفاهيم المستمرة على جدار التاريخ هى فقط تلك التى تفرض نفسها على أديم الحياة. يجب أن تكون هناك ضرورة لإيجادها، لأن المفاهيم ليست متعالية بل هى إحدى النتائج الحتمية لمسارات الحياة... ولهذا نقول بأن الفلسفة ابتكار مستمر للمفاهيم وليست موضوعات تسقط إلينا وعلينا من السماء الفلسفية طبعا.
خلاصات
كان «أفلاطون» يقول إن «الوجود» هو السبب الرئيسى لكل ما هو حقيقى ودائم، فالوجود شرط الحقيقة. وعنه يترتب ظهور ما هو منطقى وما نعتقده حركة، يصبح الوجود بهذا المنطق صورة مهيمنة على عمليات الفهم، ومن هنا يأتى التصور المدرسى لعالم المثل الأفلاطوني... والواقع هو أننا كثيرا ما نلاقى مكافآت فى واقعنا المعرفى والعلمى لهذا التصور للأشياء دن أن ننتبه بأننا نلعب اللعبة الأفلاطونية دون شعور.
المنعرج الذى أحدثه دولوز فى عرفنا هو أنه نزل بالفلسفة إلى ممارسة يومية مألوفة، ونقل فعل تعقل العالم من ميدان «الأفكار» النقى المتعالي، إلى ميدان «التجربة» الخام – حسب تعبيره- ففلسفة دولوز ملموسة لأن المفاهيم مسارات ملموسة، إن ممارسة الفلسفة بعد جيل دولوز لا تتبع طريق العموميات، ولكنها –على العكس تماما، تصب فى الخصوصيات والفرادة، وفى التجارب الشاذة عن المألوف أيضا. بحيث يصبح لكل شيء مفهوم أو إمكانية مفهوم يدرجه فى مدرج الفلسفة... عدا الفلسفة بالمعنى القديم، والتى تصبح شيئا مبتذلا غير جدير بالتفكير فيه...
العلم الفلسفى حسب دولوز دستوره التعايش بين العوالم المختلفة فى شيء مثل الــــ«ديمقراطية الكونية».