الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

تراثيات.. طه حسين يثير الشكوك حول شخصية تاريخية

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
أثار الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي الكثير من الشكوك حول ما ينسب من أحداث إلى شخص عبدالله بن سبأ، موضحًا أن الرواة أو بعض الخصوم تعمدوا التزيد في أخباره وإلصاق العديد من الوقائع له لأغراض معينة في نفوس الخصوم، كما أن البعض نسب إليه أدوارًا بطولية لا تليق به.
وأكد عميد الأدب العربي - وفق الجزء الأول من كتابه الفتنة الكبرى- أن دور عبد الله بن سبأ في فتنة الخروج على الخليفة الثالث -عثمان رضي الله عنه- أقل خطرًا مما يُقال عنه، كما أنه غير جدير بتأصيل مذهب الزهد عند الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري، وأن الذين وضعوا تلك الأخبار له صعدوا به إلى منازل لا يرقى لها أبدًا.
ويقول طه حسين في الفصل الثالث عشر الذي يتعرض فيه لشخصية ابن سبأ: " وهناك قصة أكبر الرواة المتأخرون من شأنها وأسرفوا فيها، حتى جعلها كثير من القدماء والمحدثين مصدرًا لما كان من الاختلاف على عثمان، ولما أورث هذا الاختلاف من فرقة بين المسلمين لم تُمْحَ آثارها بعدُ: وهي قصة عبد الله بن سبأ الذي يعرف بابن السوداء. 
قال الرواة: كان عبد لله بن سبأ يهوديٍّا من أهل صنعاء حبشيَّ الأم، فأسلم في أيام عثمان، ثم جعل يتنقل في الأمصار يكيد للخليفة ويغري به ويحرض عليه، ويذيع في الناس آراء محدثة أفسدت عليهم رأيهم في الدين والسياسة جميعًا. قالوا إنه ذهب إلى البصرة، فلم يكد يستقر فيها حتى رُفع أمره إلى عبد لله بن عامر فأخرجه عنها. فذهب إلى الشام، وهناك لقي أبا ذر، فلام عنده معاوية في قوله عن مال المسلمين: إنه مال لله. وتأثر أبو ذر بحديث ابن السوداء، فكلم معاوية. ثم لقي عبادة بن الصامت، وأراد أن يتحدث إليه بمثل ما تحدث به إلى أبي ذر، فتعلق به عبادة وقاده إلى معاوية وخوَّفهشره على الشام.
فأخرجه معاوية من الشام. فذهب إلى مصر وفي مصر وجد أرضًا خصبة لكيده ومكره وبدعه؛ فكان يتحدث إلى الناس بأن النبي محمدًا أحق بالرجعة من عيسى بن مريم، ويذكر قوله عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ﴾. وكان يتحدث إليهم بأن لكل نبي وصيٍّا، وبأن وصيالنبي محمد هو عليٌّ، وبأن عليٍّا خاتم الأوصياء كما أن محمدًا خاتم الأنبياء. وإلى ابن السوداء يضيف كثير من الناس كل ما ظهر من الفساد والاختلاف في البلاد الإسلامية أيام عثمان. ويذهب بعضهم إلى أنه أحكم كيده إحكامًا، فنظم في الأمصار جماعات خفية تستتر بالكيد وتتداعى فيما بينها إلى الفتنة، حتى إذا تهيأت لها الأمور وثبت على الخليفة، فكان ما كان من الخروج والحصار وقتل الإمام.
ويُخيل إليَّ أن الذين يكبرون من أمر ابن سبأ إلى هذا الحد يسرفون على أنفسهم وعلى التاريخ إسرافًا شديدًا. وأول ما نلاحظه أنا لا نجد لابن سبأ ذكرًا في المصادر المهمة التي قصَّت أمر الخلاف على عثمان؛ فلم يذكره ابن سعد حين قص ما كان من خلافة عثمان وانتقاض الناس عليه، ولم يذكره البلاذري في أنساب الأشراف، وهو فيما أرى أهم المصادر لهذه القصة وأكثرها تفصيلًا. وذكره الطبري عن سيف بن عمر، وعنه أخذ المؤرخون الذين جاءوا بعده فيما يظهر. 
ولست أدري أكان لابن سبأ خطر أيام عثمان أم لم يكن. ولكني أقطع بأن خطره، إن كان له خطر، ليس ذا شأن. وما كان المسلمون في عصر عثمان ليعبث بعقولهم وآرائهم وسلطانهم طارئ من أهل الكتاب أسلم أيام عثمان، ولم يكد يسلم حتى انتدب لنشر الفتنة وإذاعة الكيد في جميع الأقطار. ولو قد أخذ عبد لله بن عامر أو معاوية هذا الطارئ الذي كان يهوديٍّا فلم يسلم إلا كائدًا للمسلمين، لكتب أحدهما أو كلاهما فيه إلى عثمان، ولبطش به أحدهما أو كلاهما. ولو قد أخذه عبد لله بن سعد بن أبي سرح لما أعفاه من العقوبة التي كاد ينزلها بالمحمدين لولا خوفه من عثمان. والذي يكتب إلى عثمان يستأذنه في البطش بابن أبي بكر وابن أبي حذيفة وعمار بن ياسر في بعض الروايات؛ خليق ألا يعفي من عقوبته رجلًا من أهل الكتاب قد اتخذ الإسلام وسيلة لإثارة الفرقة بين المسلمين، وتشكيكهم في إمامهم بل في دينهم كله. ولم يكن أيسر من أن يتتبع الولاة هذا الطارئ ومن أن يأخذوه ويعاقبوه وهم كانوا مهرة في تتبع المعارضين وإخراجهم من ديارهم وإرسالهم إلى معاوية أو إلى عبد الرحمن بن خالد بن الوليد. 
ومن أغرب ما يروى من أمر عبد لله بن سبأ هذا أنه هو الذي لقن أبا ذر نقد معاوية فيما كان يقول من أن المال هو مال لله، وعلمه أن الصواب أن يقول: إنه مال المسلمين. ومن هذا التلقين، إلى أن يقال إنه هو الذي لقن أبا ذر مذهبه كله في نقد الأمراء والأغنياء وتبشير الكانزين للذهب والفضة بمكاوٍ من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم. لا يوجد أمد بعيد، وما أعرف إسرافًا يشبه هذا الإسراف. فما كان أبو ذر في حاجة إلى طارئ محدث في الإسلام ليعلمه أن للفقراء على الأغنياء حقوقًا، وأن لله يبشر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل لله بعذاب أليم، وأن المال الذي يكسبه المسلمون حين يظهرون على العدو، أو الذي يؤديه المسلمون إلى بيت المال زكاة أو خراجًا، أو الذي يؤديه الذميون إلى بيت المال جزية أو خراجًا؛ هو مال المسلمين يجب أن يضاف إليهم في القول وأن يرد عليهم بالفعل. لم يكن أبو ذر بحاجة إلى هذا الطارئ ليعلمه هذه الحقائق الأولية من حقائق الإسلام، وأبو ذر سبق الأنصار جميعًا وسبق كثيرًا جدٍّا من المهاجرين إلى الإسلام، وهو قد صحب النبي فأطال صحبته، وحفظ القرآن فأحسن حفظه، وروى السنة فأتقن روايتها، وشهد سيرة النبي وسيرة صاحبيه في الأموال والحقوق، وعرف من الحلال والحرام ما عرف غيره من أصحاب النبي الذين لزموه فأحسنوا لزومه. 
فالذين يزعمون أن ابن سبأ قد اتصل بأبي ذر فألقى إليه بعض مقاله، يظلمون أنفسهم ويظلمون أبا ذر، ويرقون بابن السوداء هذا إلى مكانة ما كان يطمع في أن يرقى إليها...
وأكبر الظن أن عبد لله بن سبأ هذا — إن كان كل ما يروى عنه صحيحًا — إنما قال ما قال ودعا ما دعا إليه بعد أن كانت الفتنة وعظم الخلاف، فهو قد استغل الفتنة ولم يُثِرها. وأكبر الظن كذلك أن خصوم الشيعة أيام الأمويين والعباسيين قد بالغوا في أمر عبد لله بن سبأ هذا؛ ليشككوا في بعض ما نسب من الأحداث إلى عثمان وولاته من ناحية، وليشنعوا على عليٍّ وشيعته من ناحية أخرى؛ فيردوا بعض أمور الشيعة إلى يهودي أسلم كيدًا للمسلمين. وما أكثر ما شنع خصوم الشيعة على الشيعة! وما أكثر ما شنع الشيعة على خصومهم في أمر عثمان وفي غير أمر عثمان! 
فلنقف من هذا كله موقف التحفظ والتحرج والاحتياط، ولنُكْبِر المسلمين في صدر الإسلام عن أن يعبث بدينهم وسياستهم وعقولهم ودولتهم رجل أقبل من صنعاء وكان أبوه يهوديٍّا وكانت أمه سوداء، وكان هو يهوديٍّا ثم أسلم لا رغبًا ولا رهبًا ولكن مكرًا وكيدًا وخداعًا. ثم أتيح له من النجح ما كان يبتغي، فحرَّضالمسلمين على خليفتهم حتى قتلوه، وفرَّقهم بعد ذلك أو قبل ذلك شيعًا وأحزابًا. 
هذه كلها أمور لا تستقيم للعقل، ولا تثبت للنقد، ولا ينبغي أن تقام عليها أمور التاريخ.