الثلاثاء 23 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

«شهيد الشهامة».. وعواصف التحريض

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
ما أشبه الليلة بالبارحة، ذات الأزمة تتكرر بكل تفاصيلها وأبعادها وكأن العطب قد أصاب جانبا كبيرا من وعى المصريين، وكأننا بتنا كالسمكة في كل مرة نهرع لالتقاط نفس الطعم.
قبل عام تقريبا وقعت جريمة قيام أحد الأشخاص بإلقاء طفليه في نهر النيل من أعلى كوبرى فارسكور، فيما عرفت حينها بقضية «طفلى ميت سلسيل».
وسرعان ما استغلت جماعة الإخوان الإرهابية الحادثة لنسج القصص والحكايات الخيالية التى تتحدث عن ضلوع أحد الشخصيات النافذة في ارتكاب الجريمة انتقاما من الأب المتورط في جرائم تهريب الآثار مع مافيا كبيرة.
ورغم اعتراف الأب بارتكاب جريمته، فإن جنرالات وجهابذة مواقع التواصل الاجتماعي سارعوا لالتقاط خيوط الروايات الإخوانية حول الحادث، وشاركوا عن جهل ودون قصد عناصر جماعة الإرهاب في تهييج الرأى العام وترويج أكذوبة براءة الأب وتسببوا في تظاهر أهالى قريته وتجمعهم حول مركز الشرطة، بالنهاية أخذت التحقيقات مسارها القانونى حتى تم إثبات التهمة على الأب القاتل بأدلة دامغة.
بالطبع لم يكن الهدف تبرئة الجانى وإنما الطعن في مصداقية أجهزة الدولة ومؤسساتها الشرطية والقضائية، والتشكيك في نزاهة قياداتها باختلاق قصص مافيا تهريب الآثار.
مر عام كامل لنفاجأ بتكرار نفس السيناريو الإخوانى في واقعة مقتل شهيد الشهامة محمود البنا الذى سقط دفاعا عن شرف إحدى فتيات قريته بمحافظة المنوفية، إثر مشاجرة مع من حاولوا التحرش بها والتعرض اليها بالسوء.
فرغم سرعة تحرك أجهزة الدولة للقبض على الجناة وتقديمهم للنيابة العامة، التى باشرت من فورها التحقيق، ثم قامت بإحالة المتهمين إلى محاكمة جنائية عاجلة، غير أننا فوجئنا بمواقع التواصل الاجتماعي تسارع إلى رفع شعار إعدام راجح المتهم بقتل البنا مصحوبا بقصة جديدة مختلقة حول سعى أسرة المتهم إلى تزوير بياناته استغلالا لنفوذ أحد أفرادها ونجاحها في استصدار بطاقة رقم قومى، تؤكد أن عمره دون الـ 18 لتنطبق عليه القوانين الخاصة بالأحداث؛ حيث لا تطبق عقوبة الإعدام على الحدث وتصل في أقصى مدى لها إلى الحبس 15 عاما في حال ارتكاب جريمة مثل القتل.
كالنار في الهشيم انتشر الهاشتاج «إعدام راجح»، وشاعت معه القصة المكذوبة بشأن حقيقة سن المتهم الرئيسى، وبدأنا نشهد تكرارا لسيناريو «ميت سلسيل».. محاولات لتنظيم وقفات احتجاجية وتظاهرات، وحملات واسعة للتشكيك، وصولا إلى الاستعداد لحشد تظاهرة كبيرة أمام محكمة شبين الكوم تزامنا مع محاكمة الجناة.
ولأن الأجهزة الأمنية باتت تخبر أساليب الجماعة الإرهابية الملتوية تحركت بهدوء، بينما عواصف التحريض تهب برياحها المسمومة، وتمكنت من القبض على 22 عنصرا من عدة محافظات كشفت اعترافاتهم تلقيهم أوامر من قياداتهم الهاربة باستغلال الحادث لتأليب الشارع والتشكيك في الدولة.
لكن المشكلة لا تكمن في العناصر الإرهابية مهما صغر عددها أو كبر، فمؤسساتنا الأمنية كفيلة بها، وإنما تكمن في جمهور مواقع التواصل الاجتماعي الذى صدق أكذوبة تزوير شهادة الميلاد، وترك عقله وعقاله لخبيث مغرض كاره للوطن، فلو أن هذا الجمهور استخدم عقله لدقيقة واحدة، وأعمل وعيه الفطرى في تلك الأكذوبة لاكتشف من فوره استحالة تزوير أى مستند يخص المتهم راجح تحت أى ظرف بعد أن أصبحت جريمة مقتل محمود البنا قضية رأى عام؛ حيث لا يجرؤ مسئول مهما بلغ نفوذه، الإقدام على تقديم خدمة كهذه لأنها ستكلفه ما لا يطيق.
ربما علينا التحلى بنوع من الشجاعة ومواجهة هذا الجمهور بجهله وعدم وعيه وعجزه عن وضع الأمور في نصابها الصحيح، بل وإنه قد تخلى عن عقله ليكف عن لعب أدوار الآخرين.
ففى كلتا القضيتين «ميت سلسيل» و«شهيد الشهامة» حاول جنرالات فيس بوك لعب دور ضابط الشرطة والمحقق والقاضى في آن واحد، لنبدو وكأننا إزاء ما سميته في مقال نشرته تعقيبا على أحداث الفوضى التى واكبت قضية «ميت سلسيل» العام الماضى بـ «ظاهرة إستروكس التواصل الاجتماعي».
نحن أمام كارثة وعى حقيقية، تتكشف خسائرنا الفادحة مع كل أزمة أو حادثة، ولا أرى علاجا ناجعا لهذه الكارثة سوى تعزيز دور وسائل الإعلام التقليدية في نشر المعلومة الصحيحة في الوقت المناسب من مصادرها الموثوقة والرئيسية، والتى هى أجهزة ومؤسسات الدولة بالدرجة الأولى؛ وتفعيل كافة المواد العقابية الخاصة بجرائم النشر في أى وسيلة نشر علنية، وفى القلب منها منصات مواقع التواصل الاجتماعي التى يدرك أصحابها أنهم مهما نشروا من أكاذيب أو ارتكبوا من جرائم سب وقذف لن تطالهم يد العدالة؛ لأنهم يعلمون أن المادة 19 من قانون تنظيم الصحافة الخاصة بعقوبات جرائم النشر في مواقع التواصل الاجتماعي لا تطبق إلا على الصحف ووسائل الإعلام التقليدية؛ وحسابات مواقع التواصل الاجتماعي التى يتجاوز عدد متابعيها 5 آلاف شخص، وقد طالبت في هذه الزاوية أثناء إصدار قانون تنظيم الصحافة قبل عام تقريبا، تعديل هذا البند لتطبق نصوصه على أى حساب مهما صغر عدد متابعيه؛ لأن الطبيعة التكنولوجية لصفحات التواصل الاجتماعي تمكن عددا غير محدود من الأشخاص من مشاهدة محتوى الصفحة بغض النظر عن عدد متابعيها ما يعنى تحقق شرط العلنية طبقا لأحكام المحكمة الدستورية العليا حول توافر هذا الشرط في جرائم النشر التى تقع بمجرد اطلاع شخص واحد على المحتوى المنشور.
لا سبيل لمواجهة أزمة الوعى إلا بقوانين صارمة تكبح جماح رواد التواصل الاجتماعي وتفرض ضوابط تعلم الناس الفارق بين حرية الرأى والتعبير في أى قضية، وبين نشر معلومات كاذبة تنطوى على التحريض والتشهير ولنا في فرنسا بلد الحريات المثل الأعلى التى شهدت قبل عامين محاكمة شخص نباتى؛ لأنه حرض على جزار من فرط حبه للحيوانات؛ حيث اعتبر القانون الفرنسى ما نشره هذا الشخص جريمة نشر تستوجب العقاب، ولم يتعامل مع المسألة باعتباها حرية رأى أو تعبير، فما بالنا بمن ينشر معلومات كاذبة حول قضية رأى عام بهدف التحريض والتشكيك في مؤسسات الدولة الرسمية.