الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

دور الجامعات ورسالتها

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كتابان لا يمكن إنكار فضلهما فى وضع الأسس والضوابط الموجهة لرسالة الجامعات، فإذا ما عدنا إلى مطلع القرن العشرين سوف نتذكر توجيهات الأستاذ الإمام محمد عبده (١٨٤٩م – ١٩٠٥م) وخطابه الإصلاحى - الذى استحال إلى مشروع فى المجتمع المصرى على يد تلاميذه - وجاء فيه ضرورة إنشاء جامعة - على غرار الجامعات الأوروبية الحديثة - تجمع فى بنيتها العلمية بين الأصيل من المعارف التليدة والمشخصات الثقافية للهوية من جهة والجاد والطريف من العلوم الجديدة فى شتى المعارف الإنسانية، وذلك تبعًا لاحتياجات المجتمع وآماله وطموحاته من جهة أخرى، بعد تلكأ الأزهريين وعدم استجابتهم لدعوته للإصلاح الشامل للعملية التعليمية والربط بين العلوم الشرعية واللغوية والأدبية والطبيعية الحديثة بسياج يمنع عن بنيتها التعليمية الجمود والتعصب والشطط والتطرف ويدفع خريج المعاهد والمنابر الأزهرية - فى الوقت نفسه - نحو التجديد والتحديث وتلبية احتياجات الواقع ومناقشة قضايا المجتمع وإعادة بناء العقل الجمعي.
وقد ظلت كلمات الأستاذ الإمام فى هذا السياق حلمًا يخطط له المجددون من تلاميذه، وقد تحقق ذلك شيئًا فشيئًا بداية من عام ١٩٠٧م، عقب إنشاء الجامعة الأهلية، ثم بعد ضم المدارس العليا وتنظيم لوائحها إلى ذلك الكيان الذى أضحى عام ١٩٢٥م الجامعة المصرية التابعة لوزارة المعارف، غير أن تلاميذ الأستاذ الإمام لم يقنعوا بهذا القدر من تحقق الحلم، وذلك لأن غرضهم لم يكن تشييد البنايات والكليات بالرخام والحجر، بل تنبيه الأذهان وتوعية العقول وإعادة تشكيل معارف البشر وتدريبهم على حسن النظر والانتفاع بالعبر، وقد ذكر ذلك صراحة أستاذ الجيل أحمد لطفى السيد (١٨٧٢م - ١٩٦٣م) فى الاحتفال بإنشاء الجامعة. 
أما الكتابان فهما «رسالة الجامعة» لأحمد لطفى السيد، و«نحو جامعات أفضل» للدكتور عثمان أمين (١٩٠٥م - ١٩٧٨م) فعلى الرغم من صغر حجم الكتابين فإن أثرهما كان وما زال عظيمًا على كل من ينشد الارتقاء بجامعاتنا وتوجيهها إلى ما ينبغى الاضلاع به، فقد ذكر لطفى السيد فى كتابه «إن غرض التعليم الجامعى تثقيف العقل، لا ملء الحافظة، فالطالب الذى يعتمد على الحفظ المجرد والذى يعتمد على الأستاذ وحده بأخذ نظرياته قضية مسلمة من غير تفكير شخصى واقتناع ذاتي، كلاهما ليس طالب علم فى حقيقة الأمر، إنى ناصح لكم: لا يحيد بكم عن قصد السبيل اضطراب بيئتنا خارج الجامعة فى هذا الانتقال الجامعى العنيف الذى نعانيه، فتتأثروا بصور من أخطاء تلك البيئات، ثم تجيئون لنا فى هذا المعبد العلمى بألوان من النظر تتكيف فيه الأغراض الجامعية مشوهة أو محرفة عن مواضعها، أنتم أهل علم ومعرفة، فليحذر أحدكم أن يجارى العرف العام خارج الجامعة فى فهم طبيعة الروابط بين الأساتذة والطلبة وفى فهم أغراض التربية الجامعية والتعليم الجامعى». 
وعليه فرسالة الجامعة التى يقصدها لطفى السيد لا تنحصر فى تلقين العلوم لطلابها، ثم منحهم شهادات تؤكد حفظهم لما أخذوه عنها بدرجات متفاوتة، بل إن غايتها الحقيقية هى صناعة عقول وسواعد شبيبة مصر على وجه الخصوص فيزيلون عن مجتمعها الفاسد من العوائد وينشرون بين أفرادها العلم وليس العكس، فيبرأون أهلها الجهل والمرض ويعمرون ويزرعون ويصنعون ويدافعون عن مصالح أمتهم ويبصرون أهلها بمنافع ومفاسد الأغيار، بداية بما يجب عليهم من استيعابه وهضمه من علومهم ونهاية بالذود عنها إذا ما لحقت بها شرورهم أو أكاذيبهم. والعمل على بعث الأمل فى الرأى العام وانتزاع روح اليأس أو التكاسل والتراخى أو ضعف الانتماء والولاء لها والضرب على أيدى كل من يتجرأ على إفسادها أو سلب حريتها واغتيال أحلامها.
وأتذكر أننى أثناء العطلات الدراسية كان طلاب الجامعة يتطوعون للخدمات العامة ولا سيما فى السنوات السابقة للتخرج، وكان معظمنا يوجه إلى الخدمات التى تتناسب مع تخصصه، فالبعض يلحق بالمصانع والورش أو المستشفيات أو هيئات النظافة أو تنظيم الأسرة وبرامج محو الأمية أو رعاية المعاقين. وكان المقصود من ذلك الصنيع هو غرس روح الألفة والتعاون بين الطلاب من ناحية وتعويدهم على أن النظر بلا عمل هراء ومضيعة للوقت من ناحية ثانية والتأكيد على أن خريجى الجامعة يمثلون القوى الناعمة التى تحمل أسلحة العمران والمدنية والوعى وبث قيمة العزة والكرامة والحرية المسئولة فى مختلف طبقات المجتمع، وغير ذلك من فضائل وقيم وأذواق راقية قد عرف بها - الأفندية - المنتسبين للجامعة من ناحية ثالثة. 
أما الكتاب الثانى فهو «نحو جامعات أفضل» ومما جاء فيه «إنه من الواجب على المثقف الحقيقى احترام نتاج الفكر أيًا كان وأخذ الحكمة متى وجدها. وعن أى لسان وفى أى كتاب، شريطة ألا يقبل فكرة دون تحليل وتمحيص، وإلا يغتر بعلمه، فالتواضع فضيلة لأزمة للمشتغلين بالعلم، وعلى طالب الجامعة ألا ينعزل عن الناس بحجة التأمل أو الدراسة، بل يجب أن تنبع أبحاثه - أدبية كانت أو فلسفية أو علمية - من المجتمع الذى يعيش فيه ملبية احتياجاته ومعبرة عن مشكلاته وساعية لحلها». 
ويمكننا أن نستنبط من كلمات عثمان أمين أن دور الجامعات الأفضل وخريجيها هو خدمة المجتمع بالمعنى الحقيقى الدقيق لهذه الوجهة العملية، وهى بالضرورة على النقيض من أولئك الذين يبحثون عن وظيفة حكومية للتكسب منها غير عابئين بمردود ما يطلبونه على المجتمع، ولا ينبغى - فى الوقت نفسه - ترك احتياجات الأمة بمنأى عن اهتماماتهم. ولا ينبغى إلقاء اللوم على أولئك الشباب الذين يبحثون عن عمل حكومى لأنهم غير مدربين أو مؤهلين لسوق العمل الحر، والواجب على مؤسسات الدولة - بما فى ذلك الجامعات - تأهيل خريجيها لشغل الأماكن الشاغرة التى تحتاجها سوق العمل بالداخل أو الكفاءات للعمل بالخارج، ذلك بالإضافة إلى توجيه ملكاتهم النقدية للتصدى إلى الشائعات والأكاذيب المغرضة والفتن والمؤامرات التى تحتال لتفكيك الأمة. وذلك كله عن طريق تعويد الجامعيين على مناهج التفكير الناقد والمنطق الذى انتهجته فلسفة الكذب للتصدى إليها، وفتح أغراضها ومراميها أمام الرأى العام، ولا ريب فى أن أكذوبة البطالة فى مصر للشباب دخلًا فيها وذلك لأن معظمهم اعتاد أسلوب التواكل وإلقاء التابعات على الدولة، كما أن انتشار الأغانى الرديئة والمواقع المنحطة والألفاظ البذيئة والعوائد السافلة التى أضحت ظاهرة بين شبابنا لا يمكن أن نعفى الجامعيين من مسئولية ذيوعها، وذلك لتقاعسهم عن حسن توجيه الأجيال التى تصغرهم من شبيبة المدارس، بل للأسف نجد بعضهم يروج لها، ومن المخجل أيضًا أن نرى بعضهم ينتمى إلى جماعات التطرف والإلحاد والعنف والشذوذ ذلك فضلًا عن إصغائهم لتجار السياسة مؤكدين بذلك انعدام أثر الجامعة فيهم وأن ثقافتهم الحقيقية مستمدة من الشارع الشاغر من الضوابط والأخلاق. 
ولا عجب أننا نرى فى مجتمعنا الآن نقيض ما جاء فى الكتابين، ويعنى ذلك أننا أهملناهما، بل إن الكثير منا يجهلهما تمامًا. 
وما نرمى إليه من حديثنا السابق هو اضطلاع جامعاتنا بسابق رسالتها التى أنشئت من أجلها، فتعقد الجلسات الحوارية لمناقشة طلابها والموائد المستديرة لمحاورتهم مع المتخصصين للإجابة عما يدور من حولهم من أحداث شريطة أن تكون حرية البوح والوضوح والمصارحة هى السلطات القائمة دون غيرها فى هاتيك المقابلات.
وأعتقد أن المصارحة هى أفضل السبل للمصالحة ولاسيما بين الشباب فهم مستقبل مصر المقبل، أولئك الذين ينبغى أن يشغلوا معظم الرأى العام القائد بعد تأهيلهم للقيادة لمؤسساتنا وحياتنا الثقافية.
أقول ثانية لشبابنا وأساتذة الجامعات وأصحاب الأقلام منا: حاوروا شبيبتنا قبل أن تنقضوهم أو بالعنف تقوموهم، وارتقوا بأذواقهم ورغبوهم فى الفضائل قبل أن تسفهوا من شأنهم وتسخطوا على سلوكهم، ولا تنسوا دوركم ومقامكم فأنتم ورثة الأنبياء وأكمل الفضلاء.