الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

مشكلة المنهج في العلوم الإنسانية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
بحكم الموقع الخاص الذى تشغله «العلوم الإنسانية»، ضمن منظومة العلوم المختلفة، تكتسب قضية المنهج المتبع في هذه العلوم بعدًا خاصًا يجعل وضع علوم الإنسان تجاه هذه القضية أكثر تعقيدًا بكثير من وضع العلوم الطبيعية. وترجع إشكالية «العلوم الإنسانية» فيما يتعلق بهذه المسألة إلى أن تشابك «الذات» و«الموضوع» يصل فيها إلى حده الأقصى بحيث يكون الإنسان هو في الآن نفسه الموضوع المدروس والذات الدارسة، وهو ما يؤدى إلى جعل انفتاح الذات في «العلوم الإنسانية» وتطويعها لمقتضيات البحث أكثر صعوبة مما نشاهده في حالة العلوم الطبيعية.
ولكن كيف يمكننا تعريف «العلوم الإنسانية»؟
يقترح بعض الباحثين تعريفها مبدئيًا بأنها «دراسات» تتعلق بالإنسان، على الرغم من أن هذا التعريف ليس دقيقًا بدرجة كافية، وليس واضحًا، وليس منهجيًا، فـ «البيولوجيا» على سبيل المثال تدرس حياة الإنسان، لأن «البيولوجيا» في صميمها هى دراسة الحياة وعملياتها لدى كافة الكائنات الحية وعلى رأسها الإنسان، فهل هذا يبيح لنا أن ندرج «البيولوجيا» ضمن «العلوم الإنسانية» لمجرد أنها تدرس الإنسان بشكل جزئي؟ إذا فعلنا ذلك سوف نقع حتمًا في خلط لا فكاك منه، ذلك لأنه في تلك الحالة لا يكون ثمَّة فارقًا بين الدراسة البيولوجية للإنسان والقرد إلا كالفارق بين دراسة القرَدَة والقطط. صحيح أن الإنسان – بغض النظر عن كل شىء – هو كائن حي، أى لا بد من النظر إليه بوصفه أحد الموضوعات الطبيعية، وهو من حيث هو كذلك يمثل مادة وموضوعًا للعلوم الطبيعية، غير أن الإنسان رغم كونه حيوانًا فإنه يتميز عن بقية أنواع المملكة الحيوانية بالفكر والوعى وامتلاك اللغة، ومهارة استخدام اليدين، وهذا ما يجعل الإنسان إنسانًا، وهو ما يقتضى أيضًا أن نفرد علومًا تختص بدراسته منفردًا. ومن ثمَّ لجأ بعض الباحثين أحيانًا إلى التمييز بين «علوم اجتماعية» و«علوم إنسانية»، فيفضل بعضهم التعبير الأول على أساس أولوية المجتمع على الفرد، ويفضل البعض الآخر التعبير الثانى على أساس أن الإنسان هو موضوع الدراسة في المرتبة الأولى.
إن الحديث عن «علوم» إنسانية يقتضى التوقف قليلًا أمام مصطلح «العلم» Science، إذ ثمَّـة صعوبة في تعريف هذا المصطلح، فلو قلنا: «إن العلم نشاط إنساني»، فلن نجد خلافًا حول ذلك. أما إذا أكملنا العبارة وقلنا: «إن العلم نشاط إنسانى يهدف إلى كذا...» هنا يظهر خلاف له بداية وليست له نهاية، وسوف تفترق وجهات النظر حول تحديد هذا الهدف: هل الهدف من وراء هذا النشاط الإنسانى مجرد المعرفة؟ سواء أكانت الإجابة بالنفى أم بالإيجاب، فإن السؤال سيظل قائمًا: المعرفة من أجل ماذا؟ تكاد تكون الإجابة عن هذا السؤال محسومة فيما يتعلق بالعلوم الطبيعية: معرفة الطبيعة من أجل التحكم فيها وترويضها لخدمة الإنسان. ولكن هل تصلح هذه الإجابة إذا كان السؤال متعلقًا بالعلوم الإنسانية؟
وأيًا ما كان الموقف الذى يتبناه الباحث في هذا المجال، فإنه بالتأكيد موقف يؤثر في الأداة أو الطريقة أو الوسيلة التى يجمع بها مادته. فإذا كان الهدف من العلم معرفة القوانين التى تحكم هذه الظاهرة أو تلك، لكى نتنبأ بما سيحدث ونستعد له، فإن هذا يعنى ضمنًا أن هذه القوانين ثابتة. أما إذا كان الهدف من العلم معرفة القوانين التى تحكم ظاهرة ما لكى نغير منها، فإنه ينبغى في هذه الحالة البحث عن أساليب من أجل التغيير إلى الأفضل، لكن هنا تنشأ مشكلة أخري: الأفضل من وجهة نظر مَنْ؟ إن «الأفضل» من وجهة نظر السلطة الحاكمة، مثلًا، يختلف عن «الأفضل» من وجهة نظر هؤلاء أو أولئك. قد تكون هذه الاعتراضات أو التساؤلات وغيرها، صحيحة في حالة واحدة لو كانت العلوم الإنسانية – ولاسيما علم النفس – تسعى إلى دراسة الإنسان بوصفه ذاتًا. فالذات تعكف على دراسة نفسها، وتجعلها موضوعًا لبحثها، لا يكون السؤال عن موضوع الدراسة أو البحث في هذه الحالة سؤالًا فلسفيًا. فالعلم لا يسعى إلى دراسة كيانات مثل «الإنسانية» وغيرها من المفاهيم والمصطلحات المجردة التى تهتم الفلسفة بدراستها.
إذن، ما الذى يسعى إليه العلم الإنساني، من دراسته للإنسان؟ إنه يسعى إلى دراسة السلوك، أو النشاط الإنسانى متمثلًا في ذلك السلوك، الذى يتمثل بدوره في عدة صور (كالأفعال والحركات واللغة والتصرفات، التى تكون لها آثار خارجية). في هذه الحالة يصبح للعلوم الإنسانية موضوع يمكن دراسته هو السلوك الإنساني.
ولما كانت النتائج العملية للتطبيقات العلمية تتم الآن بصورة رائعة، لذا فإنه حين تُذْكَر أمامنا كلمة «علم» نميل - في أغلب الأحيان- إلى قصر هذه الكلمة على العلوم التطبيقية. غير أن هذا، في واقع الأمر، خطأ بالغ، لأن العلوم التطبيقية إنما تستند في الأساس إلى العلوم البحتة، والتى بدونها ما كان من الممكن أن تقوم العلوم التطبيقية.
وعلى ذلك فإن ما نقصده بالعلم بمعناه الدقيق هو «العلم التجريبي» Science على نحو ما يتمثل في «علم الفيزياء» و«علم الكيمياء»... إلخ. وهو ضرب من المعرفة المنظمة التى تستهدف الكشف عن أسرار الظواهر الطبيعية، من أجل الوصول إلى القوانين التى تتحكم في مسارها، ومن ثمَّ تمكننا من السيطرة على الطبيعة لصالح الإنسان، أو «العلم الرياضي» المتمثل في العلوم الرياضية المختلفة «الحساب» و«الهندسة» و«الجبر»... إلخ. أما من يرى أن «العلم» يقتصر على أصول الدين وتفسير القرآن والشريعة والسنة... إلخ، كما ذهب إلى ذلك - قديمًا - ابن تيمية وابن حنبل. بل إن وسائل إعلامنا ما زالت، حتى يومنا هذا، تقدم الدعاة ورجال الدين على أنهم «العلماء» بألف لام التعريف، وهذا هراء وتضليل وخداع، حان الوقت لنقلع عنه ونتجنبه!! يجب علينا أن نسمى الأشياء بأسمائها، وننعت هؤلاء وأولئك بأنهم «رجال دين» و«دعاة»، وليس في ذلك ما يثير الخجل أو ينتقص من قدرهم!!