الخميس 18 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

سطور عن العبور.. 3 بشارات للنصر.. رسمة طفلة وراديو حبيب وصرخة مولود مع العبور

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
كثيرة هى الحكايات عن أبطال أكتوبر، عن بطولات جنودنا على الجبهة، عن تلك المعركة التى خاضتها مصر دفاعًا عن العرض والأرض، عن الشهداء الذين رووا ثرى سيناء بدمائهم الطاهرة، دفتر النصر ملىء بنماذج مشرفة، بحكايات كتبنا أحرفها بسطور من نور ما زال العالم كله، يحاول الوصول إلى تفسير تلك المعجزة التى فعلها المصريون، وبعيدا عن الجبهة نأخذكم بالمشهد إلى الخط الخلفى إلى حكايات من نوع آخر، إلى البيوت المصرية آنذاك.. إلى ٣ حكايات صغناها من دفتر النصر بحروف من القلب للقلب.



«شاطر يا بابا.. إنت وكل زمايلك.. غلبناهم يا بابا»
ودع زوجته بقبلة على جبينها وشد على يدها قائلا: «خلى بالك من العيال، لو مرجعتش قوليلهم أبوكو مات وهو بيدافع عن بلده» ارتدى سترته العسكرية وتوجه نحو الباب، وهو يشير بإصبعيه بعلامة النصر، تلك كانت آخر صورة حفرتها ابنته الصغيرة في كراسة الرسم الخاصة بها وهى تخبر أقرانها أن هذه الرسمة لأبيها، وأنه سيعود بعدما يقضى على العدو، كان الأب البطل التحق بالجيش سائقا ولم يكن أحدا من الجنود يعرف توقيت الحرب وما قاله في مذكرات ابنته أنه كان هو وزملاؤه في كتيبتهم، وإذ بأزيز الطائرات يملأ السماء بعدها أتتهم الأوامر الحرب قامت، كل في مكانه يتصرف وكأنه يتحرك آليًا، لم يشعر هو وزملاؤه بالوقت، الله أكبر كانت تخرج من الحناجر تصل إلى السماء فترتد حماسًا وعزيمة، طوفان من الشباب المتطوع يمسك السلاح ويدخل أتون المعركة مندفعًا كسيل جارف لا يقف مداه إلا بعد العبور للضفة الأخرى، مع كل طلقة كانت البنت الصغيرة تتخيل والدها فترسم له رسمة، وهو يقاتل وهو يرفع العلم وهو يصيح الله أكبر، لكن قلبها الأخضر وعقلها الصغير لم يقبلا أن يتخيلاه وهو يُستشهد. بعد خفوت أجيج المعركة، كانت الأوامر لـه ولزملائه بنقل الجرحى والشهداء من الميدان إلى المستشفيات. كان هذا الجندى صاحب القصة يحمل زملاءه على كتفه ويضعهم على السيارة واحدا تلو الآخر ويذهب مسرعا إلى المستشفى فتصعد أرواحهم أثناء الطريق، يعيد الكرة مرة ومرة فيجد الوجوه قد ارتسمت عليها علامات البشرى بوصول الروح إلى بارئها ورؤيتها مستقرها هناك فيمسح دموعه ويصيح بالتكبير والتهليل، لم يكن يُدرك أن بعد بضع دقائق سيصيبه رصاص العدو في ظهره، طلقات نالت منه فسقط على الأرض، وتبدل موقعه في لحظة، استقر بظهره على الأرض ينظر إلى السماء يستعيد ضحكات أطفاله من الماضي، ولحظات فخرهم في المستقبل وتكريمهم لأنهم أبناء شهيد ضحى بروحه من أجل الوطن، روحه رأت تلك الرسومات التى نقشتها ابنته له في غيابه، وتذكر علامة النصر التى أشار بها وهو خارج على «عتبة داره»، فتبسم وقال الحمد لله أننى وفيت بوعد لابنتي، باتت أنفاسه ثقيلة متقطعة وروحه أخذت تغادر أنامل قدمه، فساوى بيده الثرى ونام على جنبه اليمين وكتب أمامه «الله أكبر.. الله أكبر.. النصر لمصر»، ثم غاب عن الوعي.. وإذ به على سرير المشفى وابنته أمامه تمسك برسمتها له، وفور أن يفتح جفنيه تسقط ابنته بين ذراعيه: «شاطر يا بابا.. إنت وكل زمايلك.. غلبناهم يا بابا.. غلبناهم ورجعنا أرضنا»، تسقط دمعة غالية احتبست ٦ أعوام في عين البطل ويربت على كتفها، وهو يقول: «الحمد لله يا حبيبتي.. ربنا كان معانا».

دور «الراديو أبو حجاير» في معركة النصر
جيل نشأ على أثير الإذاعة، على سماع الأغانى الوطنية التى لم يستطع العدو هزيمتها فكما كان على الجبهة أبطال كان هناك أبطال في كل مكان في مصر، أبطال يكتبون وآخرون يلحنون قذائف كانت كما الرصاص تصيب قلب العدو بالإحباط، لذا لم يكن هناك هدية من عريس لعروسه أغلى من «راديو بحجاير»، اشتراه لها ومعه عدد كاف من «الحجاير»، وقال لها: «ده بقى هتسمعى فيه كل حاجة علشان تبقى مطمنة، هتعرفى عننا كل حاجة، كانت تدير المؤشر على المحطات في «٦٧»، وتسمع بيانات الانتصارات، ثم بعد ذلك جاء الواقع مخالفا لما كان يقال، فظنت أن «العيب في ماركة الراديو، أسرعت إلى البقال أسفل منزلها، فوجدت الأمر حقيقة، لكن كيف؟ سؤال يحتاج إلى جواب.. أطفأت الراديو ووضعته في علبته أيام حتى جاءها صوت مذياع البقال «فدائي.. فدائي»، وكأن صوت خطيبها تسلل إلى قلبها بهذه الكلمات، ثم زادت الحمية وملأت الشارع كلمات «مدد.. مدد.. شدى حيلك يا بلد»، انقطعت مراسيل الحبيب واحتسبه الجميع شهيدا عدا قلبها الذى كان يشعر أنه لن يعود أو يكتب حرفا، إلا بعد أن يسترد كرامته وكرامة الوطن، هى تعرف أن لديه عزة نفس ستجعله يتوارى عنها حتى يعود إليها بما يليق، كانت تنتظر ذلك، ورغم مرور الشهور رفضت أن تفك خطبتها.. يقولون لها مات أو سقط أسيرا، وهى تؤكد لهم أنه «حى يقاتل».. غافله النعاس وبجواره «الراديو الصغير»، فإذ به يتحول إلى مكبرات في كل مكان وكأن كل أفواه المصريين باتت مكبرات تردد: «بسم الله، الله أكبر، بسم الله، بسم الله.. بسم الله، أذن وكبر، بسم الله، بسم الله.. نصرة لبلدنا بسم الله بسم الله.. بإيدين ولدنا بسم الله، بسم الله.. وأدان على المدنة بسم الله، بسم الله.. بيحى جهادنا بسم الله، بسم الله››.
كل الكلمات عاجزة عن وصف حالها آنذاك، كما كانت تروى لأبنائها وهى تقول لهم: «لما سمعت أغنية صباح الخير يا سينا.. في الأولة قلنا جيِّنلك وجينالك، ولا تهنا ولا نسينا، والثانية قلنا ولا رملاية في رمالك، عن القول والله ما سهينا، والتالتة أنتى حملى وأنا حمالك، وصباح الخير يا سينا، رسيتى في مراسينا، تعالى في حضننا الدافى، ضمينا وبوسينا يا سينا»، حسيت إنها جواب من أبوكم ليا، إنه عايش وحى وجاي، بعدها جانا تليفون إنه مصاب في المستشفى، رحت أزوره ومعايا الراديو، والشباب زى الفل كانوا بصراحة حاجة تقطع القلب لكنهم كانوا فرحانين، اللى فقد إيده واللى فقد رجله واللى فقد عينيه، وأبوكم الحمد لله كانت الرصاصة في دراعه، قام بالسلامة ويوم رجوعه كانت ليلة كتب الكتاب، وزفنى يومها ببدلته العسكرية. 

«مدواة الحبر وكف الصبية» 
اختلط صوت طلقات الوضع بصوت الرصاص، كانت تتأوه معلنة عن قدوم مولود جديد للحياة، في قاعة بالطوب اللبن ينتشر في جنباتها ضوء اللمبة الصفيح على استحياء، كانت النساء يقفن حولها يشددن من أزرها، ويقلن لها: «إن شاء الله خير ربنا هيقومك بالسلامة ويطمنك على زوجك»، كانت الولادة عسيرة في تلك الغرفة، كما كانت على الجبهة، وكأن الطفلة الصغيرة في بطن أمها كانت ترفض القدوم إلى الحياة في سنوات النكسة، وكأنها كانت تنتظر البشارة، صوت أذان هز البيوت في غير موعد صلاة، امرأة تركها زوجها بعد الزفاف بأسبوع وذهب منذ عام ولم يعد، كغيرها من شباب القرية، شيخ الجامع ينقر على الباب للنسوة: «إيه الأخبار؟».. لسه يا عم الشيخ.. دقائق وضجيج يملأ الحارات والقرية بأجمعها تتسابق نحو بيت العمدة دوائر حول المذياع: «استطاعت قواتنا عبور القناة.. وهدم خط بارليف»، صيحات النصر تعلقت في ذيل الطائرات التى كانت تمر في سماء القرية، وذهبت مسرعة برسالة إلى تلك الطفلة الصغيرة في بطن أمها تُخبرها بأنه ليست هناك من لحظة أفضل من تلك التى تحقق النصر فيها لتوثق بها قدومها إلى الحياة وقد كان، جاءت نصرة، بعد نصر أبيها على الأعداء جاءته ليتضاعف فرحه، شيخ الكُتاب أسرع، ليحضر دواة الحبر، ويضع فيه كف الصبية ويرسل رسم أصابعها لوالدها المجند كاتبا: «هذه ابنتك قد أتت فواصل القتال». حلقات الذكر حول الراديوهات لم تنفض سوى من الملائكة، ربما لأن الله كان قد أعطاهم أوامر أن يذهبوا ويقاتلوا لكى لا تنكسر شوكة أفضل أمة موحدة، وصولوا الملائكة مع أول طلعة جوية ورأتهم قلوب الجنود فهللوا وكبروا، كانت الحكايات قد صارت بأرجل تتجول هنا وهناك تُخبر الصغار عن معجزة حققها الأبطال على القنال، عن الجندى الذى دمر ١٦ دبابة، وفرك أجنحة طيارة بيده، كثيرة هى الحكايات التى ما زالت في القلوب وفى البيوت لم تحكها ولم تقصصها الجدات على تلك الأجيال.. لكننا اليوم في أمس الحاجة أن نستعيد الذكريات.

«ماكينة حلاقة وطلقة» تذكارُ رفيقين شاهدين على النصر
نشآ طفلين في عمر الزهور.. مرا بأيام ثورة ٥٢، وتجاورا في التعليم الإلزامى، إلى أن خطت بهما السنوات فأصبحا شابين مؤهلين للالتحاق بقواتنا المسلحة المحملة بأعباء نكسة مرت بها، يجب أن تخرج من كبوتها نحو النصر. التحقا بالجيش بعدها بعامين على الأكثر، دفعهما الحماس والاشتباكات في حرب الاستنزاف إلى بلوغ الأمل والنصر على عدو غاشم استعان بكل قوة على وجه الأرض كى يفرض رأيه، ويحيط بيديه أرض الميعاد وما جاورها من أرض العرب. في سلاح المشاة، وسلاح الدفاع الجوى «صواريخ»، كان كل منهما، لا يتقابلان إلا قليلًا لعدم توافق أجازتيهما معًا، حين ينزل أحدهما إلى بيته وقبل أن يستريح لا بد أن يذهب فيسأل عن رفيق دربه، أملًا في لقاء في ظل هذا الزخم الذى تلوّت فيه الأعناق وحملت القلوب مصابًا لا بد أن ينجلى بأيدى هؤلاء الرجال. مرت الأيام ثقالًا إلى أن كللها الله بالنصر، أُعلن العبور، انخلعت القلوب من أماكنها فرحًا وسعادة، لقد انقشع الظلام الذى لف محيط البلاد، بل وكل بلاد العرب، مرت الأيام بعدها إلى أن انتهت فترة التجنيد بعد خمس أو ست سنوات من الكفاح المسلح.. خرجا يحملان تذكارًا من الحرب الضروس- «ماكينة حلاقة» و«طلقة بندقية»، احتفظ كل واحد منهما بتذكاره، وجعله قريبًا من يده دومًا ليتذكر غلاوة النصر وما بذل من أجله، عاشا بعدها في كنف مصر جديدة، مصر لها راية عزة ترفرف على سماء العالم، بأيدى رجال يشار إلى أيهم إذا خطت قدماه أى أرض. عاشا بجوار بعضهما، لا ينفكان يتقابلان طيلة الوقت المتاح لهما بعد العودة من العمل، يتسامران، يجوبان البلاد لأداء الواجبات الاجتماعية، يتشاركان جلسات الإصلاح بين ذات البين، يسيران في كل طريق فيه خير لأهل مدينتهما، مرت السنون وخرجا إلى المعاش، لكن الوهن دب في الجسدين اللذين مرا بأمور الحياة الصعبة، لم يعيشا سوى سنوات معدودات بعد المعاش. 
توفى الأول في شهر ذكرى ثورة ٥٢.. وأعقبه الثانى في يوم ميلاد الأول يوم النصر. 
تحية للخال «محمود الدالى» وتحية للأب «جمال الريس»، دعوة بالرحمة والمغفرة لكليهما.. ولكل من بذل من نفسه وماله ووقته وعمله من أجل هذا الوطن.