الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

الأخلاق.. والقانون

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
يهدف كل من القانون والأخلاق إلى ضبط السلوك الاجتماعي للأفراد، وذلك بغية الحفاظ على حقوق ومصالح ومشاعر المواطنين، وعدم تعرضهم للإيذاء أو الضرر. وإذا كانت الأخلاق ذات طبيعة «مثالية» تسعى إلى تحقيق ما ينبغى أن يكون، فإن القانون ذو نزعة «واقعية» يسعى إلى تحقيق الممكن والمتاح. 
كانت الأخلاق مدمجة مع القانون والدين في كتلة واحدة تمثلها الأعراف والعادات والتقاليد في المجتمعات البدائية. ولم يكن للفرد «حقوق» في تلك المجتمعات، فهو يتحرك في شبكة من الأعراف والعادات والتقاليد تبلغ قدرًا كبيرًا من الصرامة، فالتقاليد والأعراف تتحكم في كل مظهر من مظاهر حياة الإنسان في تلك العصور، ويوشك الفرد ألا يكون كائنًا مستقلًا بذاته في البيئة البدائية. وحين قامت الدولة المدنية الحديثة وحلت الدولة محل الأسرة والقبيلة والعشيرة، ساد القانون. 
ومع ظهور الدولة المدنية الحديثة، وبخاصةٍ مع تطور المجتمعات الصناعية، لم يعد من الممكن الاقتصار على الأعراف والعادات والتقاليد لمواجهة احتياجات الحياة في ظل سرعة التطورات وتغير الظروف الاجتماعية والاقتصادية. وبذلك ظهرت الحاجة إلى ضرورة تنظيم أوضاع المجتمع عن طريق الأوامر والتشريعات. وأخيرًا جاء الحكم من خلال ممثلين للشعب في المجالس البرلمانية حيث تُشَرَّع القوانين عن طريق تلك المجالس المنتخبة. 
والآن وبعد هذا التطور، تثار تساؤلات عن العلاقة بين الأخلاق والقانون، فهل يتطابقان؟ وهل يقومان بنفس الوظائف، أم أن لكل منهما وظائف مختلفة؟ وإذا كانت هذه الوظائف مختلفة، فهل هى متعارضة أم متكاملة؟
لكى نجيب عن هذه التساؤلات علينا أن نقدم تعريفًا دقيقًا لكل من الأخلاق والقانون: 
ما المقصود بالأخلاق Ethics؟ الأخلاق هى علم معيارى يبحث فيما ينبغى أن يكون عليه السلوك الفاضل، فهى تبحث في الفضيلة والرذيلة والخير والشر. في حين أن القانون Law: هو مجموعة قواعد أو أحكام عامة مجردة مكتوبة تنظم سلوك الأفراد في المجتمع، وهذه القواعد مُلْزِمَة ومقترنة بجزاءات توقعها السلطة العامة على من يخالفها.
إن الأخلاق تهتم بالمقاصد والنوايا التى تعتمل في ضمير الإنسان. أما القانون فإن قواعده لا تتعلق بالنوايا والمقاصد الباطنية، طالما ظلت حبيسة النفس البشرية ولم تقترن بسلوك مادى خارجي. فأنت قد تكره زميلك أو جارك وتحمل له في نفسك حقدًا وضغينة، لك ما شئت!! اكرهه واحقد عليه كما يحلو لك!!.. القانون لا شأن له بك، ولن يعاقبك على ذلك، لأن مواد القانون لا تعاقب على خبايا النفوس. لكن عليك أن تعلم أنك «إنسان شرير» بالمعايير الأخلاقية، لأنه وفقًا للأخلاق، فإن من يحمل مشاعر سيئة كالبغضاء والحقد والاحتقار والنفور وغيرها تجاه غيره من البشر، هو «إنسان شرير» وفقًا لمعايير الأخلاق. أما بالنسبة للقانون، فليس عليك غبار إلا إذا أخرجت مشاعرك السلبية هذه تجاه زميلك أو جارك إلى الواقع الخارجى في شكل سلوك ملموس كأن تتحول كراهيتك له إلى اعتداء عليه أو على أحد أفراد أسرته أو على جزء من ممتلكاته، هنا يتدخل القانون ويعاقبك على ما ارتكبته من «فعل». 
أهم ما يميز القواعد القانونية عن قواعد الأخلاق هو «الجزاء» أو العقاب المادى الذى يتم توقيعه على من يخالف القانون. إن القواعد القانونية مُلْزِمَة بمعنى أنها مزودة بجزاء مادى – يلحق الإنسان في نفسه أو في ماله– يُطَبَق على من يخالف حكمها، فالقواعد القانونية إنما تتميز بأنها مُؤَيَدة من قِبَل الدولة التى تستطيع أن تفرضها بالقوة حين الاقتضاء. فأنت حين تترك سيارتك في المكان «الممنوع» يتم توقيع «عقوبة فورية» عليك: قد يسحب الونش سيارتك، وقد يترك رجل المرور ملصقا على زجاج سيارتك يوضح أنه تم تغريمك لوقوفك بالسيارة في المكان «الممنوع»، أو قد تجد إطار السيارة قد تم «كلبشته». كلها جزاءات وعقوبات مادية فورية تحل بمن يخالف قواعد القانون. 
أما القواعد الأخلاقية فإن الذى يفرضها على المرء هو ضميره ووجدانه أو الضمير العام في المجتمع ولكن بدون تدخل من قِبَل الدولة، أى بدون وجود جزاءات وعقوبات مادية فورية تحل بمن يخالفها، لذلك تسود الرذائل الأخلاقية في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، وتسرى في هذه المجتمعات سريان النار في الهشيم. الأدهى من ذلك والأَمَرَّ أننا اعتدنا على ممارسة الرذائل الأخلاقية – بسبب غياب الجزاءات والعقوبات المادية الفورية التى تحل بمن يخالفها – وكأننا نمارس طقسًا من طقوس حياتنا اليومية المعتادة؛ ولنأخذ «الكذب» مثالًا: 
حين يسير شخصان (صديقان أو زميلان أو جاران) معًا، ويقتربان من منزل أحدهما، يشرع الشخص صاحب المنزل القريب في دعوة الآخر تعبيرًا عن - الكرم - للدخول معه إلى المنزل لتناول فنجان من الشاى أو القهوة، أو تناول الغذاء أو العشاء، قائلًا:
- اتفضل معنا
- شكرًا
- اتفضل والله
- مرة ثانية إن شاء الله
- يا رجل تعال
- سامحني.. إن شاء الله تتعوض مرة ثانية
هذا حوار مؤسس على «الكذب».. لا الشخص الأول كان صادقًا في دعوته، ولا الشخص الثانى كان صادقًا في وعده بأنه سيحقق الزيارة في مرة قادمة.. هذا يكذب.. وذاك أيضًا.
كلنا متفقون أن «الكذب» رذيلة، ومع ذلك نكذب كما نتنفس، طوال اليوم لا نكف عن الكذب، نكذب دون أن تطرف لنا عين، يلتقى أحدنا بالآخر، ويتلقفه بين أحضانه مُقَبِلًا وجنتيه، صائحًا: 
- أهلًا أهلًا.. حبيبي.. وحشتنى جدًا جدًا
في حين أنه كاذب كذبًا بيَّنًا، إذ لا يضمر في أعماقه ذرة واحدة من الحب، لمن وصفه بأنه «حبيبه».
لقد كذب، وهو يعلم أنه كاذب، ولكنه على يقين بأنه في مأمن من أية عقوبة تناله نتيجًة لما اقترفه من كذب. صحيح إن الكذب رذيلة، لكنه يعلم أنه ليس وحده الذى يكذب، المجتمع بأسره يكذب: الآباء والأبناء يكذبون، الفقراء والأغنياء يكذبون، القرَّاء والكتَّاب يكذبون، الخفراء والوزراء يكذبون، الرؤساء والمرؤوسون يكذبون... إنه مجتمع من الكَذَبَة!! 
قس على ذلك كل الرذائل الأخلاقية التى تُمارس في مجتمعاتنا، لماذا تنتشر هذا الانتشار السرطاني؟ الإجابة ببساطة شديدة هى غياب الجزاءات والعقوبات المادية الفورية التى تحل بمن يخالفها، أى باختصار شديد غياب تفعيل القانون، وتطبيقه على الجميع الكبير والصغير، والقوى والضعيف، والغنى والفقير. حينها يتأدب المجتمع ويصير أخلاقيًا، ويكف أفراده عن التشدق ليل نهار بالمثل والقيم الرفيعة، في الوقت الذى يسلكون في حياتهم اليومية سلوكًا مخزيًا بكل المقاييس!!