الجمعة 26 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

يان مواكس.. التردي الأخلاقي كنظام نخبوي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فى أعقاب مناظرته الشهيرة مع ميشال فوكو قال نوام تشومسكى معلقا على محاوره: «لم أر فى حياتى شخصا لا أخلاقيا مثله». وهى شهادة خطيرة فى حق عالم من قبيل ميشال فوكو، شهادة سيصادق عليها بشكل ملتو أحد المعجبين به أشد الإعجاب: إدوارد سعيد؛ فقد زاره وتحدث إليه مطولا، ويبدو أن محاولات جره إلى التعبير المتعاطف مع القضية الفلسطينية قد باءت بالفشل الذريع... فى المرحلة نفسها ستنشأ مسافة فكرية كبيرة بين العملاقين ميشال فوكو وجيل دولوز؛ فالأول أبدى تعاطفا غير مبرر مع الحركة الصهيونية التى كانت مصابة بجنون استثنائى فى بداية الثمانينيات؛ فى حين أن دولوز كان مساندا قويا للقضية الفلسطينية... الشيء الذى أحدث شرخا كبيرا بينهما بعد طول وفاق.
السؤال المطروح هو: ماذا كان فوكو سيقول لو أنه عاش عاما أو عامين إضافيين وشهد «صبرا وشاتيلا»؟ 
الإجابة التى هى ليست بإجابة تدور حول عمل عميق من الفضاء الفكرى العالمى للتخفف من كل ثقل أخلاقى أو شعور فكرى بالمسئولية على العالم، وهو أمر بدأ منذ المرحلة الحداثية/البنيوية، وتعزز كثيرا فى الزمن ما بعد الحداثي/ما بعد البنيوي.
تنويعات
منذ أسابيع قليلة امتلأ الإعلام الفرنسى بقضية الكاتب الفرنسى «الكبير» يان مواكس. قضية بدأت بكرة ثلج صغيرة ظلت تكبر حتى صارت جبلا جليديا يتصدع له بنيان حضارة بأكملها.
ليس الحديث عن تصدع فى بناء الحضارة تعبيرا أدبيا يبحث عن الحقيقة فى المجاز ويتخذ المبالغة طريقا صوب وضوح رؤية حجمها دائما أقل مما تخبر عنه المبالغة. وإذا كان نظام المبالغة فى الأصل هدفه الأصلى هو الدلالة على الحقيقة من خلال تكبير صورة ما، فإن الحقيقة فى قضية يان مواكس تعانى العكس تماما، فلا يوجد إطار كاف لاحتواء الصورة كاملة. فلا باب للمبالغة تماما.
يان مواكس كاتب معروف، روائى حصل على جائزة «الرونودو»، وكاد يحصل على جائزة «الغونكور»؛ وهما مؤشرا الامتياز والقبول فى الرواية باللغة الفرنسية، هو كذلك صحفى له اسمه الكبير جدا فى فرنسا، يراه الجمهور كل أسبوع فى أهم حصة على التليفزيون الحكومى (حصة «لسنا نائمين»- القناة الفرنسية الثانية)، ويقرأ له مقالات باستمرار، هو كذلك دارس مهم وباحث حر فى عديد القضايا، ذو ثقافة موسوعية يشهد لها الجميع بإلمام قل أن يتوفر لشخص فى زمن كزمننا يتصف بالتفاهة والتسرع والعبور غير المتريث بالأشياء. 
مؤخرا انفجرت قضية غريبة جدا على هامش نشره لروايته الجديدة (٢٠١٩) التى عنوانها «أورليان» Orleans، والتى هى فى الحقيقة سيرة ذاتية مغلفة تغليفا سطحيا جدا، فيها وصف قل نظيره لتربية سيئة جدا يبدو أن والد الكاتب قد فرضها على ابنه، تربية فيها العنف والقسوة والتعذيب الجسدى والغياب شبه الكلى لقيم الحماية والتراحم التى غالبا ما تمثلها العائلة. 
الغرابة يمكن تجرعها إذا ما تخفّى كل ذلك خلف رداء كلمة «رواية» التى على الغلاف، ولكن المحاورين على المنابر الإعلامية الكثيرة سألوا الكاتب ذائع الصيت عن الخط الفاصل بين الحقيقة والخيال فى كل ذلك؛ فإذا به يقول إن كل ما رواه حقيقى لا تخييل فيه. وهنا يتصل الإعلاميون بوالد الكاتب الذى يقول: «ابنى كاذب معروف عنه الكذب، ولا يصدق كلامه إلا من لا يعرفه»، يقول الوالد أيضا إنه فعلا صارم فى التربية، ولكنه لا يمكنه تعذيب طفل صغير جسديا، أو ربطه أو وضع فضلاته على صحنه وإجباره على أكلها (الصورة واردة بالتفاصيل فى الرواية)...
فى مرحلة أخرى نجد الإعلام فى أعلى هرمه (جريدة لوموند الفرنسية؛ وهى من الأعلى سحبا والأقدم فى المهنة والأنبل سمعة... إلى حد ما) يلجأ إلى الأخ المذكور فى الرواية (أخ سبق للكاتب وهو يسأل عنه أن قال: «أنا بلا أخ فى الحقيقة، ولكننى أذكر أنه كان هنالك شخص غريب يعيش معى تحت السقف نفسه»... ويجد هذا الأخ الذى فاق الخمسين وقارب الستين المناسبة للانتقام، قائلا للصحفى الذى عرض عليه كتابة مقال مع الوعد بألا يمس المقال مقص الرقابة: «لا أخفيكم سرا؛ أنا أنتظر هذه الفرصة للانتقام منذ أربعين سنة». 
يكتب هذا الأخ مقالا يصف فيه يان مواكس (حبر الأمة الفرنسية الذى يقارب سن الستين) بالكذب والأنانية والعجز عن الحب، ويصفه بالفساد الأخلاقى والشذوذ الفكرى مع إحالات على التهمة الأخطر فى الفضاء الفكرى والسياسى الفرنسى منذ أربعين سنة: إنكار المحرقة وعداء السامية... تهم تصبح خطيرة جدا فى ظل العلاقة شديدة الأهمية بين نبى الدعاية السامية فى زمننا: بيرنار هنرى ليفى ويان مواكس؛ محميّه ومحظيّه...
لا أحد فهم جيدا هذه التهم إلى أن ظهرت إلى العلن جريدة مدرسية بلا أدنى أهمية - بعد أسبوع فقط، وبصدفة غريبة جدا، وبلا أية إشارة إلى مصدر هذه الوثائق النادرة- كان يان مواكس يحرر أجزاء كبيرة منها، وكان وهو شاب يافع دون العشرين يمارس فيها موهبته الأخرى: الرسم. الظاهر أن يان مواكس كان شديد الانتقاد للسياسة الإسرائيلية وللتوجه الصهيوني، وكان يرسم كاريكاتورا شديد اللهجة يطال به الجميع، ويطال فى جملة من يطالهم بنقده اللاذع راعيه وحاميه الرجل الخطير الذى يصنع الأسماء ويكسرها، والذى لعب دورا كبيرا فى رسم معالم السياسة الفرنسية على هامش التدخل المأساوى فى ليبيا: الكاتب المتفلسف والمستشار السياسى لرجال السياسة فى فرنسا بيرنار هنرى ليفي...
وهنا تتعقد المسألة ليدخل الكاتب المفترض أنه «كبير» فى أغنية حزينة على جميع بلاتوهات التليفزيون، يوميا وعدة مرات فى اليوم أحيانا؛ معتذرا عن أخطاء ماضيه التى اقترفها بسبب صغر سنه، والتى اعتذر عنها من خلال مسيرته، وليقدم اعتذارات عميقة لهنرى ليفى نفسه، ولتمتلأ الصحف ومواقع التواصل الاجتماعى بنشر غسيل وسخ جدا على عدة أصعدة.
خلاصات
على هامش هذه التفاصيل السريعة، وجب أن نسأل عدة أسئلة مجالها الأوسع هو هذه الحضارة المتداعية:
- ما حدود مسئولية الراشدين فى المجتمع؟ وما الفرق السلوكى بين فتى دون العاشرة ورجل بالغ عالم عليم فى الستين؟
- ما الخريطة التربوية والمجتمعية التى تجعل التراشق بهذا النوع من التهم بين كاتب ستينى من خيرة كتاب بلده، ووالده المهندس المثقف الذى يحاذى الثمانين فى عمره؟
- أى أنموذج ثقافى نقدمه للعالم من خلال إعلاء رايات الكذب، التفكك العائلي، الأحقاد المدونة فى كتب، التجارة بالفضائح، تراشق شيوخ العائلة الواحدة ومثقفيها بالألقاب والنعوت المخجلة؟
- متى يتم تحديد بروتوكولات العمل الإعلامى التى تظل دوما أداة بين يدى رجال الإعلام يفعلون بها ما يحلو لهم...؟
- أين ومتى وكيف يتم تدخل الجهات الحكومية/الرسمية/المنتخبة من قبل الناس، والتى نراها منذ عقود قليلة منسحبة لفائدة لوبيات المال والتجارة المهيمنة على الإعلام تغرقه فى وحل وصفه الفيلسوف كاسطورياديس ببلاغة كبيرة: «الهيمنة الجليلة لكل ما هو خال من كل معنى».