الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

مدرسة الفن في مزاد على الإنترنت

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لا أعلم لمَ لا يفتقد الآباء والأمهات لون الألوان على أصابع أولادهم، أو رائحة الورشة بين محتويات حقائبهم، أو ملمس الخيوط فى ثنيايا كشاكيلهم؟! إن هذه الأشياء الصغيرة هى التى تصنع الجمال داخلهم، لأنهم يكونون الأقرب لتلك النقطة التى تبدأ فيها الأشياء من مجرد خدشة صغيرة. تخيل أن الأمر يحدث تمامًا هكذا: أنت تنفرد بقطعة من خشب أو حديد أو مجموعة خيوط.. تتحدث معها.. تتبادل معها الأفكار.. تتكشف لك مفاتن جمالها.. تبوح لك بأسرارها.. تقع فى عشق التفاصيل.. تبدأ فى اكتشاف الجمال فيها.. رائحة احتراق الخشب.. بروز التطريز نتوءات مجوهرات فوق سطح القماش.. ارتفاع وانخفاض موسيقى منتظم وغير منتظم على سطح رقاقة زجاجة ملساء.. تعتقد بمنتهى الثقة أنك قدمت خلقًا بديعًا للجمال كما أردت له أن يكون.. دعنى أخبرك أن إحساسك حينها سيكون رائعًا حد أنك قد ترفض أن تعرض تلك القطعة فيراها أحد. لأنها قبل كل شيء قطعة منك وجزء من فكرك الجميل.
قضيت ما يقارب الستة عشر عامًا من حياتى خارج مصر. وحصلت على الثانوية العامة من إحدى الدول العربية المطلة على المتوسط. هذا البحر البديع، الذى لا تطل عليه مدينة أجمل من الإسكندرية، يهبك طاقة غريبة لتغيير ما حولك، وكأنك تتحول مع الوقت لموجة لا بد وأن تنحت صخرة أو تنزل مطرًا فوق توتة برية فينفجر لون أحمر جميل كالحياة، أو تشكل جداول جافة فوق النهر تلتقى جميعًا تحت قدمى القمر. كانت لمدرستى ورشة كبيرة فى الدور الأرضي، وكان مسموحًا لنا أن نقضى فيها ما يقارب الساعة والنصف يوميًا. الجميع كان مجبرًا على اختيار قطعة فنية ينجزها. لم يكن الأمر اختياريًا أبدًا. عليك أن تختار قطعة تنتمى لفن ما. تعمل بها. تنتهي. يقومون بتقييمها. تحصل على أكثر من ٥٠٪ بالمائة من الدرجات المستحقة لها فتنجح. إن لم تفعل فإنك لا تنتقل للمرحلة الدراسية الآتية أبدًا وترسب فى كل المواد. لكننى كنت أحب المكان جدًا. كل عام أنجزت قطعًا كثيرة. لعل أكثر ما أدهشهم مما أنجزت كرسيا خشبيا هزازا نحته وطليته وأضفت إليه مقرنصات مذهبة. علمنى هذا الكرسى كيف أصنع له أخوين وكيف أبيعها بمبلغ كان مرضيًا جدًا لطالبة فى المرحلة الثانوية فى ذلك الوقت. كان الأمر أكثر من ساحر وأجمل من جميل. وما زلت أحتفظ بلوحات خشبية فى مكتبى من خامات أعرف أنها لا تفقد رائحة نحتها وتغريتها لأنها تسعدنى جدًا. وإذا شربت القهوة بحضرتها أصاب بالحب الشديد.
تذكرت كل ذلك حين رأيت تقريرًا عن أول معرض فنى على الإنترنت. بدأ التقرير بجملة بسيطة لكن مغزاها قوى لتذكرك بأنك على وشك الدخول لمعرض فنى يستحق عناء زيارته: «من قال إنه لا بد من الاصطفاف طويلًا فى طوابير من أجل دخول معرض فني؟» فأنت الآن على وشك اقتحام الجمال على شبكة الإنترنت التى طالما اتهموها بإفساد الجمال. أنا لا أتهمها بذلك فهى فى الأساس اكتشاف لتوصيل ما بداخلك. كن جميلًا يصل منك الجمال، كن العكس يصل منك العكس. لا تبالغ فى اتهام الأشياء التى تنقلك أنت لا أكثر. كان المعرض هو كونست ٢.٠ هو أول معرض فنى رقمى على الصعيد العالمي، بدأ فى عام ٢٠١١ م ويقام مرة كل عامين على صفحات الإنترنت ضامًا أعمالًا فنية لمائة وثمانين فنانة وفنانًا. استطاع هذا المعرض أن يتفوق على المعارض الأشهر على الكرة الأرضية والتى تقام عادة فى إحدى المدن المعروفة بمعارضها الفنية: (كالبندقية وبرلين وشنغهاي). يضع الفنانون أعمالهم بين يدى القائمين على هذا المعرض، لتعرض أعمالهم قيد الحصر على صفحات الإنترنت. وتقطن ثلة الفنانين، المنتقاة بعناية من قبل ٣٠ جهة فنية، عالمية فى أوروبا وأمريكا الشمالية والجنوبية وآسيا والشرق الأوسط.
توالت بعد ذلك المعارض على الإنترنت وأعطت فرصة للفنانين لمتابعة الجديد جدًا والحصرى فى عالم الفن بجهاز متصل بالإنترنت على أى مكان على سطح الأرض، وكذا عرض عمله ضمن نخبة مميزة من الأعمال الفنية، وتطور الأمر فبدأت صالات المزادات بعرض القطع المعروضة للبيع لفترة طويلة قبل المزايدة، ثم فتح باب المزايدات الإلكترونية على الهواء لشرائها بطريقة المزادات.
نخلص من ذلك إلى أن الفن أساسى فى المدارس، ووجود ورش فنية حقيقية هو أمر أساسى وليس مجرد تدريس المهارات الجيدة وتوفير خامات العمل الجيدة، بل إن وجود ورشة حقيقية بمساحة جيدة. ويمكن تشجيع ذلك بعمل مساحات للعرض الدولى عبر الإنترنت. يقوم بذلك الطلاب أنفسهم فى محاولة للاقتراب من الجمال كاملًا بدءًا من اكتشافه حتى صناعته ووصولًا لنقله بيعًا أو حتى مجرد عرضًا. نريد هنا أن ننقل الجمال من عيونهم وأطراف أصابعهم لأرواحهم حتى يصبح لديهم دليل يبتعدون به عن كل القبح. إننا نحتاج لعالم يعرف الطريق للجمال حتى يرفض القبح ولا يمارسه. ويمكن أن تتعلم كيف ترسم خريطتك الخاصة لهذا الجمال. فكلنا جميل وكلنا حوله الجمال لكن ليس كلنا يعرف كيف يراه أو حتى يشعر به.