الخميس 25 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

تضليل الأذهان وحاجتنا إلى التفكير الناقد

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
لقد عكف الفلاسفة والمتفلسفون عبر تاريخ فلسفة الحوار على إيجاد إجابة وافية عن سؤالين ملحين فى مبحث المعرفة أولهما: لماذا نقرأ؟ وكيف نكتب؟ فذهب البعض إلى أن القراءة هى بوابة العلم ومصباح المعرفة، بينما نزع آخرون إلى أنها وقود الذهن وزاد الفكر، واتفقوا جميعًا على أننا نكتب أو نتكلم لنعبر عن مكنون الأنا، ونتواصل مع الأغيار، ونعلم ونتعلم ونحاور وننقد ونصاول، ولن نستفيض كثيرًا فى تبيان اجتهادات المتفلسفين وأجوبتهم حول علة القراءة وكيفية الكتابة من حيث الأسلوب وترتيب الأفكار والسياقات والأنساق، بل سننتقل إلى السياقات المعاصرة تلك التى عدلت هذين السؤالين فأضحيا كيف نقرأ؟ ولماذا نكتب؟ فالقراءة فى الفكر المعاصر تعنى التحليل والتأويل بعد الدرس والفحص، ثم إعادة ترتيب المفاهيم المستخلصة واستحالتها إلى إبداعات ومشروعات منتجة وفعالة على أرض الواقع، أى أن القراءة لم تصبح متعة ذهنية أو لذة عقلية أو وسيلة لتصنيف المعارف وتحصيل المعلومات، وأطلق على هذا الدرب من دروب القراءة «المطالعة الناقدة أو غرابيل الفهم»، ولم تعد الأعين أو الآذان هى آليات القراءة بل التفكير الناقد، فبمنأى عنه تفقد القراءة غايتها وتضيع مقاصدها، فالفهم الصحيح والوعى الحقيقى لا يمكن إدراكه إلا عن طريق التفكير الناقد، ولاسيما عقب ظهور مصطلح «فلسفة الكذب المعاصرة»، وهى تلك التى استخدمت مؤخرًا فى ميدان الإعلام وبخاصة فى حروب الجيلين الرابع والخامس، فلم تعد المعارف المكتوبة والمسموعة والمشاهدة تنتمى إلى ثالوث القيم المعروف ( الحق - الخير - الجمال) بل ألقيت فى سوق المنفعة وآتون المصلحة بمنأى عن أخلاقيات القلم وضمير العلم ومحبة الحقيقة. ولا ينبغى أن ينئ بنا حديثنا بعيدًا عن توضيح الغرض أو قيمة ما نسعى إليه، ألا وهو التفكير الناقد، فنحن الآن نخوض أشرس المعارك التى تعتمد على تضليل الأذهان وتزييف الوعى والتشكيك فى الوقائع واصطناع الوهم، ذلك فضلًا عن إثارة الشغب وتحطيم الثوابت ومغازلة المشاعر والسقوط فى ركام السفالة والقدح والفحش، وذلك كله باستخدام آلية المجتمع الافتراضى الذى خلقته التقنيات التكنولوجية المعاصرة بداية من توهم الأشياء ونهاية بافتعال الأحداث والواقعات، فقد نجحت تلك التقنيات فى خداع العقل وإيهامه بقدرة تفوق الشيطان الماكر، ومن ثم كان لزامًا علينا التسلح بسلة أكثر تطورًا من تلك التى حملها ديكارت ليغربل فيها الأفكار قبل ابتضاعها وتدشينها فى الذهن، ولعل التفكير الناقد هو الممثل الأصلح لهذه السلة التى تفتقر إليها أقلام المثقفين والموجهين والمحاورين العقل الجمعي. وتتألف من عصبة من الأسئلة المتشابكة التى لا تكتمل إلا باجتماع كل أجزائها: فنبدأ - عقب القراءة - بالسؤال عن ماهية مصدر الخبر أو المعلومة، ثم نقوم بتحليل الإجابة، ونضعها فى جدول الحقائق بقيمة عددية تبين مدى دراية وخبرة ومصداقيه المصدر.
ثم يأتى السؤال الثانى عن مضمون أو محتوى الخبر ثم نقوم بتحليله أيضًا للتأكد من واقعية الخبر ومنطقه ومقوماته وتصور وجوده فى أرض الواقع، ولا ننسى عرض مفردات الخبر على ميزان التحليل اللغوى ومقارنته بثقافة المصدر من جهة ودلالات الكلمات انطلاقا من البيئة التى لفظتها من جهة أخرى، أما السؤال الثالث فيبحث عن المقصد أو الغاية فى ظل قراءتنا للجدول السابق الذى وضعنا فيه تحليلًا لقيم الهوية والمضمون وذلك للكشف عن الهدف المباشر والمقصد المستتر، فالكثير من الأكاذيب والشائعات تتخفى وراء وجوه عدة، منها الوعظ والتوعية والبطولة والحرية والإصلاح والتمرد على الظلم.
وأخيرًا خليق بى ألا أهمل الإجابة عن السؤال الثانى وذلك لأن له علاقة مباشرة بالسؤال الأول، فسؤال (لماذا نكتب؟) يحمل بين طياته وجوهًا كثيرة، فهل نكتب من أجل التوجيه والتوعية وتصحيح المفاهيم وتصويب الأفكار وتوضيح ما التبس وتفسير ما غمض، فمثل تلك الغاية تحتاج إلى دراسة هى الأخرى والإجابة عن بعض التساؤلات، أهمها: إلى من أكتب؟ وما طبيعة ثقافته؟ والثوابت التى يعتقد فى حقيقتها، وأخيرًا ما الأسلوب أو اللغة التى يقبلها ويقنع بها، ثم البحث عن ذلك المرسل الحصيف الذى يتحدث فينصت له المتلقى ويقنع به المشاهد..
والسؤال المطروح: هل نحن نحسن القراءة والكتابة؟ أم نحن فى حاجة للتسلح بآلياتهما؟ لننجو من شراك الحرب الدائرة.
وإذا ما أردنا تطبيق التفكير الناقد على تلك الحملة المجيشة التى شنت علينا فى الأيام الماضية وعشرات الشائعات ومئات الأكاذيب، فيمكننا أن نكتشف أنه من حسن الحظ أن هناك بونًا شاسعًا بين العقل المخطط والآليات المنفذة، فمبتدع الشائعة أو مؤلف الأكذوبة قد وضعها بمنطق المغالطات وهو الخلط بين مقدمات صادقة ومحمولات كاذبة، وذلك بأشكال هندسية دقيقة تؤيدها بعض الفبركات والحيل الخبرية والمشاهد والصور المصطنعة والمستندات الزائفة والاستشهادات المغلوطة، بيد أن الآليات المنفذة أرادت وضع بصمتها على تلك المشاهد فأفسدت الواقعة برمتها، مثل البذاءات اللفظية والتهوين والتهويل وإنكار ما حاول إثباته والوقوع فى نسق التناقضات والخروج عن النص إلى سياق العبث، وغير ذلك من مفارقات لم يوقظنا منها وعينا بل غباء أعدائنا.
والسؤال المطروح: هل نحن المثقفين نحسن اللعب فى هذا الميدان ونفلح فى إيجاد البراهين وإبراز الحقائق بمنطق المصارحة وتقديم منطق الاحتمالات على أسلوب القطع وهل بيننا من ينصح الرأى العام القائد بالعزوف عن الارتجال والاستناد إلى الدقة فى العرض حتى لا يتصيد له المتصيدون؟
وللحديث بقية....