الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ثقافة

إبداعات البوابة|| "نهايات صغيرة" قصة قصيرة للكاتب محمد علام

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
الحصول على مقعد في قطار العاشرة صباحًا المتجه إلى العاصمة، يُعدُّ أعجوبة الأعاجيب، خاصة إذا ما كان قطارَ الدرجة المميزة، الذى تتدفق إليه الجلاليب الصعيدية في تدافع مع قمصان شباب المدن والبنطلونات الجينز، وتتداخل هذه الفوضى الأزيائية مع جونلات الفتيات الملفوفات في عباءات واسعة أو في خمارات وأحجبة بأربطة مختلفة، أما الفتيات الجبارات، اللواتى يقتحمن هذا العالم بشعورهن، يأخذن رُكنًا وحدهن، يكفى أن تصعد واحدة منهن القطار لتلمح شبيهاتها فتنضم إلى ركنهن، غالبا ما يكونان من طلبة الجامعات، وغالبًا ما يكون ركنهن حديث الشباب المتكدس وراء باب العربة، أو باب الحمام. 
الحصول على مقعد في هذا الزحام منعدم التنسيق؛ يُعدُّ أعجوبة الأعاجيب، والأعاجيب لن تتركنى طويلًا لأهنأ بالجلوس وحدى في مقعد، أمدد قدمى على المقعد الذى أمامى بكل أريحية، فالقطار حينما يبدأ سيره ينطلق من بلدتي، وأكون أول الركاب، لكن سرعان ما تتدافع الجموع من كل بلدة نمر بها، وما هى إلا دقائق حتى كان الناس يتوزعون في الممرات بين العربات وبين المقاعد ووراء المقاعد، وفوق المقاعد أيضًا، حيث كان اثنان ينامان فوقى على حاملة الحقائب. 
يجلسُ أمامى شابان يبدو عليهما أنهما حديثى التجنيد، الرأس حليقة، الذقن ملتهبة، سمراوان بلسعة على الجبهة، يتحادثان في صوت منزعج عن أمور كثيرة لا أهتم لها. 
في هاتفى أخبارٌ عديدة عن أصدقاء عرفتهم في أرض الواقع، وأصدقاء أكثر لم ألتقهم من قبل، ولا أعرف شيئًا عنهم سوى ما يشاركونه علنًا. لا رسائل جديدة في صندوق رسائلي، آخر رسالة أرسلتُها كتبتُ فيها: 
أنا الآن في الطريق، وقد تحرك القطار منذ قليل، وحسب قوانين المسافة والسرعة فإن أمامى ساعتين وأكون في المحطة. 
الآن يرتمى رجلٌ بجوارى، كأن فيلًا ألقى بجسده، فشعرت بهزة مضاعفة في المقاعد بالإضافة لاهتزاز القطار نفسه. روائحُ عديدة جاءت معه، تجشأ ثم مسح فمه بظهر يده، ويبدو أنه من الأفضل لى ألا أفكر فيما تكون هذه الروائح.. التفت إلى وسألني: ماذا تفعل؟ 
سؤال وجيه في الحقيقة وهو يكشفُ عن مدى ضعف موقفي، فأنا لا أعرف ما أفعله الآن، كل ما أفعله أننى أستقبل أخبار أناس لا أنتظرها، وهذا شيء لن يقنع ذى الجلباب الصعيدى والشعر الباهت السواد، قلتُ له: لا شيء. وأغلقت هاتفى وانتبهت له. قطب حاجبيه، ثم أخرجَ عُلبة سجائره وامتدت يده لى بسيجارة، قلتُ له: 
- لا شكرًا. 
- لكنك تُدخن. 
حسنًا كيف أشرحُ له أننى عاهدتُ فتاة أحبها على أننى سأقلع عن التدخين، إن الصعايدة لن يستوعبوا مثل هذه الأمور. قلت له أننى أحاول أن أتخلّص منها. لكن يده مازالت ممدودة بالسيجارة وهو يحدجنى بنظرة، يبدو أنه انزعج، قال: لكنك غير جاد. أخذتها منه وأشعلتها، نفث دخانه بكثافة في سقف العربة ثم قال: 
- لى ابن في مثل سنك.. أنت في الجامعة أليس كذلك؟ 
لم أرد، دخان السيجارة يعتملُ في حلقى بصورة لا آدمية.. 
- كان من المفترض على ولدى أن يكون في آخر سنة في الجامعة، لكنه لم يحترم نفسه، اشترى جيتارًا وأخذ يجوب الأفراح هنا وهناك.. 
هؤلاء الريفيون لديهم تصورات صارمة حول المهن التى يجب أن يشتغلها المرء.. 
- يعتمدُ على ما شيدته من ثروة بشق الأنفس.. 
أود لو أسأله من أين أتيت بهذه السجائر القذرة؟ أخرجتُ هاتفى وأخذتُ أمرُّ سريعًا على صفحات الأصدقاء، وفجأة اختطفنى خبرٌ من حديث الرجل تماما، لم أعد أسمعه، خبر وفاة شاب في منتصف العشرينيات، أشعر بقلبى يعمل كمطرقة بالكهرباء، صحيح أننى لم ألتقه من قبل، لكن كان بيننا حديث واحدٌ تقريبًا، فتحت رسائله لأحاول أن أتذكر آخر ما تراسلنا بشأنه، كان يطلب منى في آخر ما كتب لى أن أحادثه فور نزولى للعاصمة، كان ذلك منذ مدة طويلة، صحيح أننى زرتُ العاصمة أكثر من مرة، لكننى لم أحادثه أبدًا، لا أعرفُ لماذا، لكن أعتقد أننى لم أعد في حالة تسمح باكتساب صداقات جديدة.. 
إننى في الطريق إلى العاصمة الآن، ولم يكن في نيتى أن أحادثه أيضًا، إنه لم يكن في تفكيرى بأى حال، لكننى أشعر بالعار الآن.. تُرى كيف يمكن للمرء أن يستقبلَ خبر وفاة شخص في عربة قطار؟ أين يمكننى أن أختبئ وأبكي؟ الجدران المعدنية تحاوطنى من كل جانب، فجأة انتبهت للضجيج من حولى مما يعبر عن تزايد الزحام والفوضى، ولاحظتُ غياب صوت الرجل، وثِقلًا على كتفي، انتبهتُ فوجدته قد أراح رأسه على كتفى وراح في النعاس، الجنديان أمامى أيضًا نائمان وكل منهم يفتح فمه للشخير الطالع في تناغم، أنظر للرجل وهو ينام على كتفى كأنه ينام على مخدة في سريره، أود لو أصفعه بيدى على قفاه المخطط بتعاريج الجلد، هاتفى ينبهنى لرسالة: 
سأنتظرك على طريقة الأفلام القديمة التى تحبها، 
على رصيف المحطة، 
أحبك. 
لم أستطع أن أكتب شيئًا، زاد الثقل على كتفى للغاية، وتضاعف الشخير المتصاعد إلى أذني، نظرتُ للرجل كان قد توقف شخيره وسال لعابه على قميصي، انتفضتُ وأنا أزعق فإذا به يسقط على المقعد الآخر دون أن يُحرك ساكنًا. أنظار ما يقرب من مائتى شخص تحدق نحو البؤرة التى أقفُ فيها، الهدوء الذى احتل المكان كان مخيفًا جدًا.. 
عندما وصل القطار إلى المحطة، كان الرجل قد لُفَّ وجهه في شال أبيض، يحمله بضعة ركاب ويهبطون به القطار متقدمين الجميع، هى واقفة وعيونها تلمحنى وأنا أطأ الرصيفَ، الأرضُ تميد بى، ترفع يدها، وأشعر أن ما بيننا أبعد بكثير مما قطعه القطار.