الجمعة 19 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

ملفات خاصة

مصطفى بيومي يكتب: عباقرة الظل.. إبراهيم قدري

البوابة نيوز
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

قصير نحيل تستوطن وجهه تجاعيد مزمنة عتيقة كأنه ولد شيخا مسنا، لا متسع في فصول حياته للطفولة والمراهقة والشباب، أما نبرة صوته فذات إيقاع مختلف، هى مزيج نادر من الشجن والتعب، فضلا عن المرح الخافت الكامن الذى تكتمل به لوحة الألم والوجيعة.

إنه فنان يمثل بوجهه وجسده ومشيته التى تبلور الشعور بالضآلة والهامشية وقلة الحيلة، لكن فيها قوة غامضة لا مسمى لها؛ قوة الاستهانة واللامبالاة. في عشرات الأفلام التى يقدمها إبراهيم لا يظهر اسمه في الصدارة، لكن حضوره ساطع متوهج، وطلته تسكن القلوب والأرواح.


ابن أصيل للمكان

بعد سنوات من مشاهدة فيلم «لا وقت للحب»، قرأت قصة يوسف إدريس المأخوذ عنها الفيلم: «قصة حب»، واكتشفت بلا عناء أن إبراهيم قدرى هو الوحيد المهيأ لتجسيد شخصية «إسماعيل أبو دومة». الممثل القدير في مطلع الثلاثينيات من عمره، ويبدو أكبر كثيرا. علامة من علامات مدينة الموتى، وفى ملابسه وجلسته وتدخينه للجوزة ما يؤكد أنه ابن أصيل للمكان ومهنة التُربي، أما صوته متعدد الطبقات فيتجاوز الأذن ويقتحم القلب بدفئه وقدرته المدهشة على التلوين والإيحاء. يقول للزائر حمزة:"دا أنا مولود هنا.. وباشتغل هنا.. وبإذن الله بعد عمر طويل هاندفن هنا".

يرى الرجل نفسه نجما ذائع الصيت في المنطقة، وإليه يلجأ الوطنى الثورى حمزة، رشدى أباظة، وحبيبته فوزية، فاتن حمامة، بحثا عن ملاذ آمن من المطاردة البوليسية. عندئذ يظهر الوجه الوطنى والإنسانى لإسماعيل، ويتألق قدرى في التعبير عن شخصية ابن البلد الشعبى البسيط الذى يعرف أسرار الخلية الثورية و«الديناميت» المخبأ في المقابر: «دا أنا ثورجى ووطنى وأعجبك تمام».

يباهى بمشاركته في ثورة ١٩١٩، وفى المشاهد التى تجمعه برشدى أباظة وفاتن حمامة، تنحاز الكاميرا إليه، ويطغى حضوره المتوهج على النجم والنجمة. كتلة من الحيوية والجاذبية والسحر، وسيطرة محترف متمكن على الشخصية التى يذوب فيها. عفوى تلقائى طيب القلب، مسلح بالبراءة كأنه طفل، لا يخاف الموت والحياة معا.

يصل قدرى إلى ذروة الإتقان عندما يرفض منحة حمزة المالية، ويراها إهانة تخدش الكرامة والكبرياء: «الله الله.. إيه ده يا سى حمزة.. أنت بتشتمني؟.. حد قالك إن إسماعيل أبو دومة بتاع كلام من ده!.. أنا رجل فقير صحيح إنما عندى مرّوة.. ولا إكمنى يعنى رجل فقير.. دا انت ضيفى يا سى حمزة.. أنا عملت فيك إيه أنا عشان تعمل فيا كده؟.. كأنك قلعت الجزمة وضربتنى بيها.. روح يا شيخ الله يسامحك».

التفرد الجدير بالإعجاب لا يكمن في الكلمات الشجنية المؤثرة، لكنه في تكاملية أداء إبراهيم قدري. الوجه المعبر بتحولاته المباغتة المقنعة، تطويع لغة الجسد والصوت الذى يكتمل به التأثير بلا ذرة من التصنع والافتعال.

ينتهى الفيلم ويبقى قدرى حاضرا في أعماق المشاهد الذى يدرك بفطرته أنه في مواجهة ممثل خارق الموهبة، ثروته في التوحد مع الشخصية التى يجسّدها ويضيف إلى النص المكتوب لمساته التى تمنح الخصوصية والطزاجة.


آحاد الناس وملح الأرض

بعد سبع سنوات، يقدم إبراهيم دورا مشابها في «يوميات نائب في الأرياف»، فهو اللحاد الذى يفتح القبر لتشريح جثة زوجة قمر الدولة علوان. يهبط في خفة المهنى المحترف إلى القبر، ويستخرج جثة رجل فيتعرض للتوبيخ من الطبيب الشرعي، ولا يختلف الأمر مع الجثتين الثانية والثالثة. عندئذ يعلق التُربى النحيل بصوته الذى تحبه الأذن ولا تخطئه: «الله.. أمال النسوان راحت فين!».

تتقلص مساحة الدور بما لا يتيح لثريّ الموهبة أن يكشف عن قدراته، لكن الراسخ المستقر هو تألقه في أدوار البسطاء العاديين من آحاد الناس وملح الأرض.


الفلاح الفقير المأزوم

إبراهيم قدرى هو الفلاح الفقير المأزوم بائع البقرة التى لا يملك غيرها في «شىء من الخوف»، ولا يهنأ بشيء من حصيلة البيع الاضطرارى. الإتاوة المفروضة عليه قهرا ضعف ثمن بقرته، والاحتجاج التنفيسى يعرّضه لمزيد من البطش. وهو المدلك حسنين في «حمام الملاطيلى»، صاحب العبارة الموجزة الدالة التى تمثل مفتاحا مهما للكشف عن الرؤية المقدمة في الفيلم:«يتوب علينا ربنا»!

صبيّ حمام نشيط كأنه ولد ليكون صبيّ حمام، يتحرك كالنحلة عارى الصدر بارز العظام، شاهدا بحركته وصوته المعبر على الحياة الموازية التى لا يتأتى إدراكها إلا لمن يحتكون بها عن قرب، وهل أقرب من حسنين؟

مدلك بارع لا يملك من يراه إلا أن يوقن بأن مهنته هذه هى العمل الذى يحترفه طيلة العمر، أما عن تعبيرات وجهه الموحية فعلامة على المدرسة التى ينتمى إليها وترتفع به عن العاديين من أشباه الممثلين.

في شخصيات اللحاد والفلاح الفقير وصبيّ الحمام الشعبي، وما يشبه ذلك من مهن متواضعة، يتحقق إبراهيم قدرى ويضفى على هؤلاء البسطاء المهمشين عمقا يرتقى بهم، وفى هذا الإطار يمكن قراءة أدواره الصغيرة ذات المذاق المختلف في «قاع المدينة» و«السقا مات» و«الكرنك» و«المذنبون» و«أهل القمة» و«غريب في بيتى» و«خرج ولم يعد»، البواب والعطار وماسح الأحذية وتاجر الفراخ والسمسار والتومرجي. أدوار محدودة المشاهد، وقد تكون مشهدا واحدا، لكنها تستدعى التوقف أمام براعته التى تدفع المشاهد إلى مبايعة الرجل نجما دون انشغال بمن يواجهونه من النجوم.

العطار في «السقا مات» بارع في صنعة الوصفات الجنسية، يستمع في حكمة العجائز لما يطلبه شحاتة أفندى، فريد شوقي: «حاجة كده من اللى بتوضبها لروحك»، ويرد ساخرا صادقا: «هو يا ابنى عاد فينا توضيب.. ما خلاص بقى».

لا يملك إلا أن يقبع في الهامش منسيا مهملا، وفى «على باب الوزير» يتخذ من المرض مهنة ومصدرا للرزق. يعرض عليه طالب الطب الفقير كمال، عادل إمام، خمسة جنيهات ليشرح له حالته، ويرفض المريض المحترف بلا تردد:

«- خمسة جنيه إيه؟ أنا بأبيع ترمس! أنا مش ها أفتح بقى بأقل من عشرين جنيه.

- عشرين جنيه!

- وإيه يعنى عشرين جنيه! بكره تبقى دكتور قد الدنيا وتجيب العشرين جنيه دول من عيان واحد».

الدنيا بنت الحيلة، وما أسهل أن تتحول نقمة المرض إلى نعمة. كلُّ يبيع ما يملك أن يبيعه، وليس مثل فنان الهامشيين والمهمشين في القدرة على الإقناع بمشروعية ومنطقية الصفقة.

هل يصلح إبراهيم قدرى لتجسيد دور الموظف الأفندى المنتمى إلى طبقة أعلى قليلا؟. الإجابة بالإيجاب، لكن أقصى ما يصل إليه هذا الموظف أن يكون من الصغار المطحونين الذين يكابدون الفقر والحرمان، محسوبا في نهاية الأمر على الضائعين في حياة قاسية تطحن الفقراء بلا رحمة، دون نظر إلى ملابسهم.




أب مصرى قح، وإنسان مسكون بالمشاعر

هكذا يمكن تصنيف أدوار قدرى في «سونيا والمجنون» و«عاصفة من الدموع» و«سواق الأتوبيس» و«يارب ولد». ليس مستغربا أن يكون حشاشا مدمنا في «الباطنية»، يقف في الطابور بحثا عن المتعة التى يتوافق من خلالها مع التعاسة، لكنه يتعرض لبطش الزوجة المتنمرة واعتداء واحد من منظمى طابور التعساء!

بتكوينه الجسدى الهش وقوته الروحية الرحيبة، يقدم قدرى شخصية الأب في إطار مختلف عن غيره من آباء السينما. في «النمر الأسود» يقدم لابنه محمد، أحمد زكي، خلاصة المنظومة الأخلاقية الشعبية قبيل سفره إلى أوروبا: «مش ها أوصيك تانى يا محمد.. لحم الخنزير حرام ويربى الخوف.. اوعى تقرب منه.. لا هو ولا الخمرة.. الخمرة بتلحس المخ».

قد لا يكون زوجا صالحا، لكنه أب مصرى قح، وإنسان مسكون بالمشاعر المعقدة المختلطة التى يقدم من خلال الإمساك بخيوطها دورا لا يُنسى في «الحريف». المشهد الذى يجمعه مع ابنه فارس، عادل إمام، يتضمن دروسا بليغة في الأداء العبقرى السلس، وليد الوعى والإدراك. يقول لابنه في عتاب محسوب لا يعرف الإسراف العاطفى الانفعالي: «ما بتزورش أبوك ليه.. نسيته ولا مستعر منه؟».

يقول كلماته هذه وهو يواصل العمل كأنه لا يبالي، ويرفض بإصرار أن يوصف بالعجوز، قبل أن يسأل عن حفيده الذى لا يراه، وإذ يخبره فارس بموت أمه، طليقة القفاص المقترن بزوجة أخرى، يرد وفوق وجهه أطنان من الحيرة: «معاك سيجارة؟»، ثم يعلق مثل فيلسوف يكثف أسرار الوجود في كلمتين: «كلناها نموت».


- عادل إمام في حضرته ابن يتعلم الحكمة

في المشهد الاستثنائي، يمثل إبراهيم قدرى كأنه لا يمثل، ويتحول عادل إمام في حضرته إلى ابن يتعلم الحكمة. ما أعظم إبراهيم وهو يشرب الشاى ويدخن ويشكو مرارة الفقر والعوز بطريقة غير مباشرة، فالمهنة البائسة لا تمنح إلا أقل القليل، والمعاناة التى يكابدها ويتعذب بها قرب نهاية العمر، تدفعه إلى طلب الدعم في تعفف يليق بعباقرة الظل، في الحياة والفن معا.