الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي

آراء حرة

كتاب "مواد البيان".. والوزارة في التراث المصري

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news
فى الآونة الأخيرة تحتاج الدولة إلى كفاءة القائمين بها فى مرحلة تاريخية نسعى فيها إلى إقامة بنيان مصر القوية سياسيًا، الغنية اقتصاديًا، المتقدمة علميًا وصناعيًا، المستقرة أمنيًا، تظلها واحة العلم والإيمان والعمل بفضل الله وعقول أبناء مصر وسواعدهم الفتية.
وفى ظل السعى إلى ارتقاء الفنون والاهتمام بالرياضة وتنمية قدرات الشباب المصرى الواعد بمستقبل أفضل يحقق الآمال المرجوة خلوصا من المآزق الراهنة على كل المستويات. وفى سعي حثيث أيضا لبناء أسس تكافل اجتماعى إنسانى يحقق للمصريين الكرامة الإنسانية؛ وينبذ - على سواء- المثالب التى استفحل شرها فى المجتمع المصرى. وفى التراث المصرى كتاب قيِّم لأديب مصرى اسمه على بن خلف، من كُتَّاب العصر الفاطمى، عنوانه: «مواد البيان»، عقد فيه فصلا نادرا عن الوزارة ومفهومها وشروطها، يمكن أن يكون مفيدا لهم فى القيام بمهامهم.
والكتاب أصلا فى عناصر البلاغة التى يجب أن تتوافر فيمن يضطلع بالكتابة الرسمية للدولة، وكان لها ديوان يُسمى «ديوان الإنشاء»، يتولاه كبار الأدباء البلغاء، ويعد من أركان الدولة.
كما تعد الثقافة الواسعة للأديب من الشروط المهمة للكتابة الرسمية التى كانت تصاغ صياغة أدبية. واتسم كتاب «مواد البيان» بالطابع الموسوعى الذى أدى بمفهوم الأدب إلى الاشتمال على فنون المعرفة المختلفة، ومنها هنا تناوله لموضوع الوزارة وتقترن الوزارة فى هذا الكتاب بالرياسة، ومن أول آلياتها المهارة فى فنون الكتابة، فقد كان رئيس ديوان الإنشاء على درجة الوزير فى بعض الأحيان. ومن هنا نظر مؤلف هذا الكتاب إلى فن الكتابة الديوانية على أنه أرفع ألوان الأدب، وفضّله على الخطابة والشعر.
يقول على بن خلف: «الوزارة هى الرياسة، وصاحبها يجب أن يكون قيمًا بجميع أنواع الكتابة وأقسامها، عالمًا بشروطها وأحكامها، لأن كل ناظر فى فن من فنونها إليه يُرفع ما ينتظر فيه، فلا يجوز أن يكون جاهلًا بشىء منه».
والوضع القديم مختلف عن الوضع المعاصر، إذ الأخير يعتنى فى اختيار الوزير بالتخصص، وإن كان يُفَضَّل أن يكون مثقفًا بالمعنى العام، وأن يأخذ من موسوعية المفهوم التراثى للأدب ما يحقق هذه الثقافة العامة إلى جانب التخصص.
ولأن الدين أساس الملك؛ فإن مؤلف هذا الكتاب يرى معرفة أمور الدين واجبا على الوزير فيكون «نافذًا فى علوم الدين، لأن الدين أساس الملك الذى يبنى عليه أمره». ولا يغنى هذا أن يكون الوزير فقيهًا دينيًا، ولكن معناه أن يتحرى الصدق والحق، وإقامة العدل، واتباع المعروف، والإخلاص فى العمل، وإتقانه، إلى غير ذلك من الصفات الجميلة التى يوجبها الدين، وتعين صاحبها على التوفيق فى عمله لإصلاح شأن العباد والبلاد.
وقد حدد «على بن خلف» معالم الوزارة أخلاقيًا وإنسانيًا ومهنيًا مما يجب أن يكون صاحبها «فاضل العقل، أصيل الرأى، جيد الرويَّة، ثاقب البديهة، جميل الصفح، مترفعًا عن المباهاة برياسته، والمطاولة بمنزلته».
وتلك سمات رائعة جامدة بين الجانبين الخلقى والعملى من رجاحة عقل، وأصالة رأى توجبه حكمة العمل بهذا المنصب الرفيع، والتأنى والتفكر فى الأمور، وسرعة البديهة، والعفو عند المقدرة، والتواضع من السمات الشخصية التى تعلى من شأن الإنسان، وما أحسنها عند الوزير.
والصورة التى يرسمها «على بن خلف» فى كتاب «مواد البيان» تجعل الوزير الذى يتحلى بفضائلها محبوبًا ناجحًا موفقًا فى دينه ودنياه.
ومنها، أيضا، أن يكون عفيف الطعمة، شريف النفس، وقورًا، صموتًا عن الخوص فيما لا يعنيه، كثير الأناة، منتهزًا للفرصة، متصرفًا لبلاغتى المنطق واليد، فاضل الطبع، مجبولًا على العدل».
فالوزير المثالى- هنا- هو من يعف فى طعامه بأن يكون حلالًا طيبًا، وأن يكون شريف النفس، ذا مهابة ووقار، وصمت وتجنب لما لا يعنيه، كما هو من حكمة الرسول محمد- صلى الله عليه وسلم. كما أن الصبر والتأنى من الصفات الإنسانية المحمودة للوزير. أما قول «على بن خلف» أن يكون الوزير «منتهزًا للفرصة» فليس معناه ما يتبادر إلى الذهن - الآن - من معنى سلبى نفعى، ولكن معناه أن يحسن توقيت القرار ليكون صائبًا، فلا تفوته فرصة النجاح فيه، ولا يضيع عليه الوقت اللازم لاتخاذه فى حينه. والحق أن ما ذكره مؤلف هذا الكتاب فى الوزارة يمكن أن يعد دستورًا لها.
مثل ما أشار إليه من أفضلية الوزير إذا كان فصيحًا قولًا وكتابة «متصرفًا لبلاغتى المنطق واليد»، وأن يكون فاضل الخلق، عادلًا «عالى الهمة، صادق اللهجة، متأنيًا فى وعيده، يلامين أهل الطاعة والانقياد، ويغلظ على ذوى المعصية والعناد... آخذًا بالتقوى، عادلًا عن الهوى، لا يشقى به المُحِقُّ وإن كان عدوًا، ولا يسعد به المُبطل وإن كان وليًا». وأسلوب «على بن خلف» بليغ فى تصوير رؤاه الثاقبة، وحكمته النافذة إلى حقائق الأمور، ومثاليات العلم والعمل، وأصول الكياسة فى أمور الرياسة.
وهو متأثر بأسلوب الجاحظ إمامًا للنثر الفنى العربى من سجع وتقسيم وازدواج وطباق وجناس وبديع مؤثر إبداعًا فى الأسلوب والصور الأدبية، وإقناعًا فى الأفكار والرؤى.
وعلو الهمة وسداد القول وصدقه من أدبيات الوزارة، والكياسة فى التعامل مع الناس من فن السياسة، حيث استمالة المطيعين وعقاب العاصين مما تستقر به أمور الدولة، ويحقق عدالة القائمين عليها من الإحسان إلى المحسن والإساءة إلى المسىء، ومعاملة كلٍ بما يستحق، إن خير فخير، وإن شرًا فشر... ونستكمل غدًا إن شاء الله.